القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

منصور المحجوب: مؤسِّس الجامعة الإسلاميَّة، ورئيس المحكمة العليا بليبيا (1923-2001م)*

على الرغم من أنَّ الشيخ منصور المحجوب شخصيَّة معاصرة، فقد امتدَّ به العمر إلى مطلع القرن الحالي، فإنَّ المعلومات عنه شحيحة جدًّا، ولعلَّ ذلك راجع إلى أنَّه كان مطلوبًا للمحاكمة بعد انقلاب 1969م، ما اضطرَّه إلى العيش في المنفى طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، ولم يجرؤ أحد، فيما نعلم، على توثيق تاريخه عدا د. إدريس فضيل، الذي كتب مقالة بعنوان: «الشيخ منصور المحجوب: باني النهضة الدينية الحديثة في ليبيا» نشرها على شبكة المعلومات، وأخرى مختصرة نشرها في كتابه (باقة مشكَّلة من بناة الوطن) تحت عنوان: «الشيخ: منصور المحجوب شيخ الجامعة الإسلاميَّة، وأحد بُناة النهضة العلميَّة»، وما كتبه عنه في مدوَّناته الأخرى عن تاريخ مدينة البيضاء، وتاريخ جامعة السيِّد محمَّد بن عليٍّ السنوسيَّة، ومن هذه المصادر استقيت جلّ ما كتبت في هذه المقالة، إضافة إلى ما أفاد به ابن أخيه السيِّد: محمَّد مصطفى محمَّد مصطفى المحجوب، الذي لازمه في آخر سني حياته.

منصور المحجوب: مؤسِّس الجامعة الإسلاميَّة، ورئيس المحكمة العليا بليبيا (1923-2001م)*

أوَّلًا: مرحلة النشأة والتكوين

ولادته، ونشأته:

وُلد الشيخ: منصور عام 1923، في الطيلمون، ويُعدُّ الشيخ منصور -وإن كانت أصوله من مصراتة- ضمن علماء برقة؛ ففيها وُلد ونشأ، وفيها خطا أولى خطواته في سلَّم التعليم. وهو ينتمي إلى أسرتين كريمتين من أسر الإخوان السنوسيِّين؛ فجدُّه لأبيه الشيخ مصطفى المحجوب، شيخ زاوية الطيلمون، وجدُّه لأمِّه -السيِّدة عائشة بنت محمَّد- هو الشيخ مصطفى الدردفِيُّ([1]).

التحاقه بالأزهر الشريف:

هاجرت أسرته إلى مصر وهو ابن ثماني سنين، وفي منتصف الأربعينيَّات تقريبًا التحق بالأزهر الشريف، واجتهد في الدراسة، وواظب على تلقِّي العلوم عن كبار علماء الأزهر، حتَّى تحصَّل على (شهادة العالِميَّة للبعوث الإسلاميَّة)، سنة 1371هـ/1952م.

ثانيًا: مرحلة العمل والبناء

مشيخته لمعهد السيِّد محمَّد بن عليٍّ السنوسيِّ، بالبيضاء:

كان أحد أهمِّ بناة التعليم الدينيِّ الحديث، فما إن رجع حتَّى عُيِّن شيخًا لمعهد السيِّد محمَّد بن عليٍّ السنوسيِّ عام 1954م، ويصف د. إدريس فضيل الشيخ منصورًا يوم رجوعه إلى أرض الوطن فيقول: «لم أكن سمعت عن الشيخ منصور، حتَّى حضر إلينا ذات يوم، ليكون شيخًا للمعهد الدينيِّ الذي أنشئ في تلك الفترة عام 1952م، فإذا به شابٌّ شيخ معمَّم، حديث التخرُّج من الأزهر، قويُّ الجسم، فسيح المعالم، متميِّز بالبدانة، قويُّ الشخصيَّة، صارم النظرات، واضح العبارات، يوزِّع كلماته ويضغط على كلٍّ منها»([2]).

نقله إلى المحكمة العليا بطرابلس:

حين كان الشيخ منصور المحجوب شيخًا للمعهد في مشيخته الأولى له، تقرَّر أن يُنقل إلى العمل بالمحكمة العليا، فاستاء الطلاب من خبر نقله غاية الاستياء؛ إذ كانوا يعلمون بمكانة المحجوب عند الملك، ودالَّته عليه، وتلبيته لكلِّ رغبات الشيخ، وأنَّ تركه للمعهد قد يجرُّ عليهم متاعب، أو يجلب لهم نواقص، وعلى الرغم من ذلك فقد أقاموا له حفل توديع حضره الشيخ، وكان يبدو موزَّع المشاعر([3])، رحل الشيخ إلى طرابلس عام 1956، وأخذ يعمل بالمحكمة العليا، وصار لا يأتي إلى البيضاء إلَّا لمامًا، في فصل الصيف خاصَّة، حيث كان يعود ليقيم في بيته الصغير([4]).

عودته إلى إدارة المعهد الدينيِّ، وتأسيسه الجامعة الإسلاميِّة:

عاد الشيخ إلى إدارة المعهد الدينيِّ عام 1958 حاملًا مشروع النهوض بالمعهد الدينيِّ والقسم العالي، وكان رجلًا طموحًا واسع الآمال، وهذا ما جعله يتحول بالمعهد من إدارة صغيرة تقبع في ركن مظلم من زاوية معزولة، إلى جامعة امتدَّت حتَّى غطَّت العالم الإسلاميَّ أجمع ([5]).

وظَّف الشيخ قدراته الإداريَّة في تطوير الجامعة، «فقفز بها قفزة عاجلة؛ فلم تمضِ سنوات حتَّى تحوَّلت من قسم عالٍ للشريعة، إلى ثلاث كلِّيَّات، كلٌّ منها بعميدها، ومكتبتها، وإدارتها المستقلَّة، كما أنشا إدارات كثيرة، للوعظ، والطباعة والتجليد، وشؤون الموظَّفين، والشؤون العامَّة، والامتحانات، والإسكان، والمدارس القرآنيَّة، والاتِّصال بالعالم الاسلاميِّ، ومعهدًا للبعوث، ومعاهد جديدة في درنة وسبها وبنغازي والكُفرة، بالإضافة إلى معاهد في طرابلس ومصراته والزاوية، وغيرها. حتَّى غدت الجامعة الإسلاميَّة ملء السمع والبصر، تهوي إليها أفئدة الراغبين في العالم كلِّه»([6]).

استقدم الشيخ إلى جامعته بعضا من كبار العلماء في شتَّى فروع المعرفة، للإقامة والمحاضرة والتدريس فيها، كما استقدم بعضا من كبار العلماء والمفكِّرين من أنحاء العالم في تلك الفترة وما بعدها، للزيارة والمحاضرة، فقد زارها وحاضر فيها: الفاضل بن عاشور وعثمان الكعَّاك والبشير النيفر من تونس، والمهدي بن عبُّود وعبد الكريم الخطَّابي من المغرب، ومالك بن نبي من الجزائر، وعبد الحليم محمود والصادق عرجون ومحمَّد سعيد العريان ومحمَّد بيصار وصالح شرف من مصر، ومحمود شيث خطَّاب من العراق، ومن أفريقيا أحمدو أوبيلو رئيس وزراء نيجيريا، وإبراهيم بانياس أحد زعماء المسلمين في أفريقيا، وأبوبكر تفاوة بليوة، رئيس وزراء نيجيريا الشماليَّة، كما قدم إليها مستشرقون غربيُّون زائرين ومحاضرين([7]).

وصنع الشيخ المحجوب لمنصب شيخ الجامعة مقامًا رفيعًا «شيخها يُدعى بكلِّ حفاوة إلى المناسبات، ويُخصَّص كرسيُّه في الصدارة بين رئيس الوزراء، ورئيس مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النوَّاب... وعلاوة على ذلك، فشيخ الجامعة يُدعى عند الملك كثيرًا للاستشارة، وتُفسح له الطريق حين يرغب في مقابلة الملك متى شاء »([8]).

رجوعه إلى المحكمة العليا، ومشاركته في تأسيس رابطة العالم الإسلاميِّ:

وبعد حوالي أربع سنوات قضاها الشيخ في بناء الجامعة، وتأسيسها، نُقل مرَّة أخرى حيث أصبح مستشارًا في المحكمة العليا، ثمَّ عُيِّن رئيسًا لها، هذا إلى أنَّ مكانته العلميَّة وشهرته العالميَّة أهَّلتاه لأن يكون أحد الأعضاء المؤسِّسين لرابطة العالم الإسلاميِّ عام 1962م.

منصور المحجوب: مؤسِّس الجامعة الإسلاميَّة، ورئيس المحكمة العليا بليبيا (1923-2001م)*

ثالثًا: مرحلة إقامته في المهجر

ملاحقته من قِبل الانقلابيِّين:

في سبتمبر 1969 كان الشيخ المحجوب في رحلة علاج لسويسرا([9])، وليلة الانقلاب تناول طعام العشاء مع صديقه الملك فيصل آل سعود، ثمَّ ودَّعه وأوى إلى غرفته.ويقول الشيخ منصور: "وفي صباح اليوم التالي استدعاني الملك فيصل، وما إن دخلت عليه حتَّى أخبرني بالانقلاب العسكريِّ الذي وقع في ليبيا، وبأنَّ الانقلابيِّين أخذوا في اعتقال المسؤولين، فوقع الخبر عليَّ وقوع الصاعقة، فأخذ الملك يهدِّئ من روعي، واقترح عليَّ أن يصطحبني إلى الحجاز." ومنذ ذلك اليوم والشيخ مقيم بمكَّة، وتعاقب الملوك، وظلُّوا يحيطون الشيخ برعايتهم، ويحفظون ودَّه واحترامه([10]).

في ليبيا - حسب قول الدكتور إدريس فضيل - حاكمه الانقلابيُّون «غيابيًّا، وحكموا عليه بالإعدام، لماذا؟ قطعًا ليس على الرجل جريمة قتل، ولا جريمة انتهاك، ولا خيانة، فلماذا الإعدام إذن، لسببين: الأوَّل يرجع إلى الحقد الأسود لصلته بالملك الصالح، والثاني: ليقطعوا عليه طريق العودة لبلاده، فمات غريبًا عن بلد هو أشهر بُنَاة التعليم فيه»([11]).

إقامته بالحجاز:

استقرَّ بالشيخ المقام في مكَّة، واستمرَّ في أداء عمله برابطة العالم الإسلاميِّ، إلى جانب التدريس في جامعة الملك عبد العزيز بجدَّة، وعلى الرغم من محاولة الانقلابيِّين إقالته من منصبه، فإنَّه ظلَّ محتفظًا بمنصبه - بناء على توصية من صديقه الملك فيصل آل سعود - لأنَّه عضو مؤسِّس، وظلَّ من هناك يبعث بأشواقه وحنينه إلى إخوانه ومحبِّيه، ويتابع أحوال الوطن([12]).

وفاته:

في آخر أيَّامه أصيب بعدَّة أمراض، فظلَّ يعاني آلامه، وأحزانه، ولم يجد سندًا إلَّا من الحكومة السعوديَّة، حتَّى وافته المنيَّة فجر الخميس 17 جمادى الأخرة 1422هـ/ 5 سبتمبر 2001([13])، وصلِّي عليه في الحرم المكِّيِّ، ودُفع في مقبرة المعلاة، بجوار السيِّدة: خديجة.

توفِّي الشيخ ودُفن في أرض غير وطنه الذي أعطاه زهرة شبابه، ومات غريبًا عنه، وموتُه غريبًا لا يعزِّي فيه إلَّا أنَّه أُودع أرضَ النبوَّة ومهد الإسلام ([14]).

عقبه وحليته:

تزوَّج الشيخ منصور من كريمة عمِّه السيِّدة: حفصة بنت محمَّد عليٍّ بن مصطفى المحجوب، وأنجبت له ولدًا سمَّاه باسم جدِّه الثاني: عبد الوهَّاب، وعقَّب السيِّد عبد الوهَّاب بنتًا واحدة.

مما قيل فيه:

حلَّاه تلميذه الوفِيُّ له د. إدريس فضيل فقال: «من مميِّزات الشيخ منصور: حبُّه للعلم وتشجيعه عليه، ورغبته في النهوض بالبلاد، واحترامه للعلماء، ورعايته للطلَّاب الفقراء، حتَّى إنَّه كان ينفحهم ببعض من مرتَّبه، ويفتح لهم بيته وصدره، كما كان يتميَّز بالشجاعة والجرأة في اتِّخاذ قراراته»([15]).

وقال في موضع آخر: وممَّن تولَّى مشيخة الجامعة: الشيخ حسين الأحلافي، والشيخ عبد الحميد الديباني، ويجتمع الثلاثة «في نقاء الوطنيَّة، والحبِّ للسنوسيَّة، والانحياز للعلم، والرغبة في النهوض بالوطن، في أسرع زمن ممكن.

أُولَئِكَ آبَائِي فِجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ

إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ»([16]).

-----

([1]) مقالة: الشيخ منصور المحجوب، ويُنظر: باقة مشكِّلة من بناة الوطن: 148-150.

([2]) مقالة: الشيخ منصور المحجوب.

([3]) يُنظر: صفحات مطويَّة من تاريخ جامعة السيِّد محمَّد بن عليٍّ السنوسيِّ الإسلاميَّة: 15، 16.

([4]) مقالة: الشيخ منصور المحجوب.

([5]) يُنظر: المقالة.

([6]) باقة مشكِّلة من بناة الوطن: 149.

([7]) المقالة.

([8]) صفحات مطويَّة: 97.

([9]) وليس كما جاء في (صفحات مطويَّة: 162) وغيرها، من أنَّه كان في الحجاز.

([10]) رواية السيِّد: محمَّد مصطفى المحجوب، ابن أخي الشيخ منصور، والسيِّد: أمين صفيِّ الدين الشريف السنوسيِّ، ابن ابن عمَّة الشيخ منصور.

([11]) صفحات مطويَّة: 162.

([12]) يُنظر: المقالة، والباقة: 149، 150.

([13]) يُنظر: المقالة، والباقة: 150.

([14]) المقالة.

([15]) الباقة: 150.

([16]) صفحات مطويَّة: 92، 93.

* قُدِّم هذا المقال في إطار مشروع "عهود، وشخصيات ووقائع لافتة في التاريخ الليبي"، ونحن نرحب بأي ملاحظات تتعلق بتضمين الشخصية التي يركز عليها ضمن الكتاب المزمع إصداره بالخصوص، وبأسلوب كتابته ومحتواه.