القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

خيال الريف وعقل المدينة

حين قرر القيصر بطرس تحديث الأمة الروسية على النمط الأوربي الغربي بدأ مشروعه في العاصمة موسكو، لكنه واجه تيارا محافظا، عادة ما تتسم به الحاضرات العريقة، عرقل مشروعه الذي كاد أن يُجهض، فواتته فكرة بناء مدينة حديثة مشرفة على الحدود مع أوروبا ليقيم عبرها مشروعه التحديثي، فكانت بطرس بيرغ التي أصبحت فيما بعد وجهة لكل كتاب وفناني الحداثة .

التكامل بين المدينة ومحيطها:

عشت في كهف وفي بيت شعر وكوخ وتبعت قطعان الماشية ودرست في قرية صغيرة، وحين بلغت من العمر ربع قرن انتقلت إلى مدينة درنة ببعض الملابس والكتب ومخطوطين في القصيدة النثرية، لكني واجهت هناك تيارا محافظا رافضا شكلا وموضوعا للقصيدة النثرية، مثلما واجه شعراء؛ مثل مفتاح العماري وفرج العربي وفرج العشة الذين انطلقوا بقصيدتهم النثرية من البيضاء، ازدراءً وصل إلى حد السخرية من قِبَلِ حرس الشعر القديم في الحاضرة طرابلس . وهذا طبيعي ويحدث في كل الأمم لأن المدينة العريقة تتشكل فيها طبقات محافظة، لها تقاليد راسخة وثقافة قادرة على الدفاع عن نفسها بضراوة.

يقول ديورانت، الثقافة تولد في كوخ الفلاح لكن لا يمكن أن تزدهر إلا في المدينة، وفعلا المدينة، حتى بطبقتها المحافظة، هي ما تؤجج عنفوان الحداثة المتمردة ولو بالصدام بها لأنها تضعها في قلب الجدل وفي صميم اختبار جدارتها بأن تكون.

من جانب آخر، المدينة هي مصدر كل القيم الحديثة التي ظهرت بقوة بفضل ما تعرضت له من جدل خلف جدرانها أو في شوارعها ومنتدياتها، وهي مركز الطباعة ودور النشر والمسارح والمكتبات والمقاهي الثقافية والسينما وغيرها من وسائل الفن والمعرفة، وهي وجهة كل مبدع ولد خارجها ليتطور، وحتى مجابهة مغامرته الإبداعية تسهم في تطورها.

كل قراءة لسيرة رمز من رموز الفن والأدب في العالم، أو في الغالب، تفيد بأن هذا الرمز نازح من القرية أو الر يف، ودون مجيئه للمدينة ما كان ليكون رمزا، وأيضا لولا مجيئه لما تباهت المدن برموز عظيمة في الفن والأدب وأقامت لهم تماثيل في ميادينها أو سمت بهم شوارعها، وهذه العلاقة التي يوثقها تاريخ الإبداع يجب أن تكون بين المدينة كمركز حضري وبين محيطها، فكل منهما يثري الآخر، لكن ما يحدث أحيانا من تعصب متبادل يوقف هذه الكيمياء التي كانت وراء مشاريع فكرية وأدبية وفنية كبرى خدمت في النهاية الكيان برمته بل الجمال الإنساني برمته .

العلاقة بين شعر المدينة وبين الشعر الشعبي من المفترض ان تكون وثيقة، واحترام خصائص كل تجمع بشري بما فيه من ثراء ثقافي أو جمالي هو ما ينتج تاريخ فن ومخيال الهوية ، غير أن ما أراه هي حالة الهزوء من هذه الخصائص وربطها بالتخلف، رغم ان المستشرقين و علماء الأنثروبولوجيا، اكتشفوا مبكرا ثراء هذا التراث وشحناتهاالروحية والجمالية حين درسوا أبعاده الإنسانية، ووضعوها في سياق اجتهاد الإنسان أينما كان لتأثيث محيطة ولمواجهة الطبيعة وصعاب الحياة اليومية، وكان الفن أهم أداة لهذا الصراع ولتوثيق هذه الملحمة.

المكان مقدسا:

ذهبت مرة والصديق أحمد يوسف عقيلة جولة في السهوب الجرداء الممتدة جنوب الجبل وحين شاهدت هناك أناسا يحومون حول أراضيهم القاحلة يسيجونها وينظفونها هبط علي خاطر سرعان ما قلته لأحمد . أستطيع أن افهم لماذا اسلافنا دافعوا عن هذه الأرض بضراوة، إنها ليست مجرد تعبير مجازي يقع تحت تسمية (وطن سياسي) إنها علاقة عضوية وكأنها جزء من أجسادهم أو وجودهم، في المدنية تخصص لي الدولة أرضا أبني عليها بيتي دون حتى أن أرى ترابها، ثم لا تلبث أن تحاصرني المباني العالية فتحجب عني السماء وتحل المصابيح المرفوعة على أعمدة فولاذية محل النجوم. هنا الناس عاشوا يأكلون من هذه الأرض ويترجلون فيها بحرية ويتيممون صعيدها، ويعودون كل مساء إلى بيوتهم بجلود معفرة بترابها، وحين رحلوا إلى المعتقلات بعيدا عن هذه الأرض أصيبوا بالكآبة، وألفوا ملاحم الحنين إلى هذه الأماكن القاحلة التي يظهر جمالها حيث لا نتوقع أبدا . يقول رسام فرنسي: "أن الفنانين مثل البدو، حقائبهم دائما محزومة يترحلون من مكان إلى مكان، هاجسهم الحرية واكتشاف الجمال المتجدد وليكونوا دائما في التحام بالطبيعة التي تلهمهم". عبارة البدو الرحل ترتبط عندنا بالتخلف وبالجلافة، لكن حين ننصت لفنون هؤلاء الرحل نكتشف مدى الرقة والحنان والجمال القابع خلف هذه الجلافة التي تفرضها طرق العيش، فلا يمكنك أن تعيش هنا بأيدٍ ناعمة، حيث وقت الحصاد كنا نقلل من استخدام الصابون حتى لا تصبح يدينا عرضة للجروح من أوراق القمح والشعير الحادة.

المدينة ايضا حلم جميل لكل من ضاق ذرعا بهذه الحياة الشاقة، الاسترخاء ونوم القيلولة والمقاهي والمسارح ودور السينما .......... إلخ . ومن المدينة جاء إزدهار الريف حين تقرر المدينة بمفهومهما الميتروبولي الانفتاح على المحيط بدل الانطواء على نفسها، ومن المدينة كانت تأيتينا كل أدوات العيش، الرحى والمحراث والمناجل ومقصات جزء الصوف، والبخور والحناء والتوابل، وملابس العيد .

الطغيان لا هوية له:

ليبيا حكمتها أيديولوجيا، بغض النظر عن رأينا فيها وإذا ما كانت ترقى لمستوى أن تكون نسقاً فكرياً، لكنها كانت فاعلة على الأرض، ثم أعقب ثورة فبراير أيديولوجيا أخرى مازالت حاضرة على الأرض بقوة . الأيديولوجيا (الجماهيرية) الأولى التي بدت مُجرّمة للقبلية وللأحزاب، تراجعت في فترة ما لتلعب بالتحالفات القبلية والفعاليات الشعبية العشائرية كي تستمر، بينما استغلت الثانية (الإسلاموية) تأجيج المشاعر الجهوية من أجل الحشد لصالحها . لكن حسب وجهة نظري، في المجمل، لم تكن القبيلة فاعلة في تشكيل المشهد السياسي الليبي ولا في وصول متصدريه إلى السلطة، وحضورها كان تعويضيا في غياب المؤسسات والقانون للمحافظة قدر المستطاع على السلم الأهلي، ونجحت في هذا الجانب إلى حدما، ما يجعلها مازالت في إطار المجتمع الأهلي وليس المحرك للسياسات العامة أو المسار السياسي أو قوى النفوذ، وما فعله القذافي كان يُربط تعسفاً بأصله البدوي أو بالبداوة عموما، لكنه في الواقع لا يمت لقيمها المتفق عليها بصلة ولا لأعرافها الأخلاقية، فحتى أثناء العنف لابد من التمسك بأخلاق الفرسان، وطغيانه كان لا يختلف عما فعله فعل الطغاة على مر التاريخ، فهتلر أو موسيليني كانا طالعَين من حواضر وحضارة أوربا، سليلي المدنية، وقارئين للفلسفة، ومهتمين بالموسيقى والرسم، بينما مانديلا الذي كان والده شيخ قبيلة يقول أنه تعلم روح التسامح والمصالحة والديمقراطية من اجتماعات الأعيان في بيت والده التي كان يتابع حواراتها طفلا وصبيا.

العرف وحقوق الإنسان:

عندما كان استخدام مصطلح "حقوق الإنسان" ممنوعا في المنشورات المحلية زمن النظام السابق، باعتباره مفهوما دخيلا مستوردا من الغرب، كتبت مقالة تحت عنوان "حقوق الإنسان في الثقافة الشعبية" كنت من خلالها أطمح لأن أهرب هذا الاصطلاح الممنوع، ومن جانب آخر رغبت في تأصيل هذا المفهوم، والإشارة إلى أن القوانين المتعلقة بحقوق الإتسان لا تخص جهة محددة أو لغة أو حضارة، فكل تجمع بشري تتقاطع مصالحه يحتاج إلى مثل هذا المفهوم كي يدير زحامه، ويُهذّب حياته وعلاقاته. وهي قوانين أخذت في التطور مع الترقي الإنساني ومدى ابتعاده عن جذره الحيواني الذي كانت تحكمه قوانين الغابة. تطرقت في تلك القراء لقيم يقننها العرف القبلي، تتعلق باحترام حماية قبيلة للاجئ من قبيلة أخرى يلوذ بها بما يشبه اللجوء الإنساني، والعقوبات العرفية المتشددة فيما يخص العنف ضد المرأة، جسديا أو لفظيا، أو انتهاك حرمة البيت فيما يسمى (الجردة) التي تشدد عقوبتها إلى أقصى حد، أو التمثييل بالجثة، أو تجريم (النصرة) حين يتعرض شخص للضرب من أكثر من شخص واحد، بل يذهب هذا العرف لتجريم الاعتداء على الحيوانات أو ضربها أو قتلها. وجعلت تلك المجتمعات البدائية من هذه المواثيق الأخلاقية الشفوية دستورها في غياب دستور مدني أو دولة قانون تنظم هذه العلاقات، وأحيانا عبر التعاضد بين القانون والعرف، لأن في هذه المجتعات تعتبر الصلح سيد الأحكام، ما أكسب شيوخ القبائل خبرة متراكمة في إرساء المصالحات الاجتماعية، وتراثنا مليء بمثل هذه المصالحات وبالأمثلة الشعبية التي تشكل فرشة نظرية لها أو حكما تختصر الكثير من الكلام، وأشهر هذه الأمثلة التي تدين العنف الجسدي وتجرمه مقارنة بالعنف اللغوي (الدم غطى العيب)، فمهما كان حجم العنف اللفظي تلغيه قطرة دم تسال بسببه، وبإمكان من تعرض لعنف لفظي أن ينال حقه عبر العرف وبشكل سلمي إذا ما تحاشى أخذ حقه عبر العنف.

الريف ملهم والمدينة مستقبل:

فترة الاغتيالات اليومية في درنة لأشخاص من نخبتها بين قضاة وعسكريين برتب عالية ورجال أمن ومحامين ونشطاء وأكاديميين، ذهبت في زيارة لصهري في قرية الفائدية، ولأنه لم يكن موجودا قال لي ابن أختي أنه مدعو لميعاد قبلي لحل مشكلة. وحين وصل سألته عما حدث وما المشكلة، فأخبرني أني أحد أفراد قبيلة كا قتل كليا أمام بيت لقبيلة أخرى، ولكن لم يصل الميعاد إلى حل وبالتالي ستحال المسألة إلى النيابة وتأخذ رقما ، باعتبار سجل محضر للواقعة وكان غرض الميعاد أن يصل على الصلح قبل أن تحال إلى النيابة. ضحكت وأعرف لماذا ضحكت بذاك النوع من الضحك المر الممزوج بالألم، فأنا قادم من مدينة، تعتبر إحدى حاضرات ليبيا العريقة، يُقتل فيها أشخاص من نخبتها يوميا، ولم يُسجل محضر واحد حيال هذه الجرائم، أو تحال قضية على النيابة أو حتى تحظى بميعاد حولها . يا للمفارقة.

كنت حزينا على أصدقاء جميلين قتلوا في درنة لكني رجعت ممتلئا بالأمل لأن البلد مازال فيها أناس يعتبرون قتل الكلب جريمة.

وتظل المدينة كمختبر حقيقي لكل هذه القيم هي الطريق إلى المستقبل شرط ان تستوعب بوعي وبروح تسامحية كل المحيط ومكونات المجتمع وثقافاته التي فرضتها ظروف حياتية وطرق العيش عبر التاريخ، وما يعنيني هو التخفيف من غلواء هذا الخطاب العنصري الذي يرى أن المدينة وحدها قادرة على صنع المستقبل والتسامح والتنمية والديمقراطية، وازدراء كل ما عداها، القرية أو القبيلة أو البادية، وهو وجه مقابل لعنصرية القذافي التي باح بها في مجموعته القصصية "القرية القرية وانتحار رائد الفضاء" التي يزدري فيها المدينة وسكانها وتاريخها بخطاب يسم طبيعة الطغيان سواء جاء من المدينة أو الريف أو البادية.