القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

تعجيل الدعوى بعد نقض الحكم، بمناسبة الطعن المدني رقم 616-61 ق

بمناسبة الطعن المدني رقم 616-61 ق

تخلص الواقعة في أن محكمة استئناف مصراتة الغت حكماً صادراً عن محكمة مصراته الابتدائية قضى برفض دعوى بطلان هبة وحكمت بالبطلان) استئناف رقم 201-35 ق). طُعن في الحكم بالنقض (طعن رقم 586-55)، ونقضت المحكمة العليا الحكم وأحالته الى ذات المحكمة للفصل في القضية مجدداً. عجل صاحب الشأن الدعوى بصحيفة سجلت تحت رقم 182-2012، حدد لنظرها جلسة 21/7/2012، أعلنت للمستأنف ضده بتاريخ 4/7/2012 ثم تتابعت التأجيلات لإعلان طرفي الخصومة بعد تأجيلها إدارياً حتى جلسة 8/12/2013، وفى هذه الجلسة حضر الطرفان، وقدم المطعون ضده مذكرة بدفاعه طلب فيها الحكم بسقوط الخصومة، فقضت له المحكمة بذلك في 20/4/2014. طُعن في هذا الحكم بالنقض بتاريخ 22/5/2014، وفي تبرير طعنه ذهب الطاعن الى أن الحكم مشوب بالخطأ في تطبيق القانون، والقصور في التسبيب، ذلك أنه قضى بسقوط الخصومة، بالرغم من أن الطاعن لم يهمل أو يقصر في تعجيل استئنافه، وأن السبب هو أحداث ثورة فبراير. وبعد نظر الطعن، قررت الدائرة المدنية الثانية تأييده، فحكمت بقبول الطعن شكلاً، (وبنقض الحكم المطعون فيه، وإحالة القضية الى محكمة استئناف مصراته للفصل فيها مجدداً من هيئة أخرى، وإلزام المطعون ضده المصاريف).

أولاً. تعجيل الدعوى في الميعاد تفادياً للحكم بالسقوط:

(... ذلك أن الحكم بسقوط الخصومة - سيما في مرحلة الاستئناف - هو من أقسى الجزاءات التي فرضها القانون على المستأنف الذى يهمل تحريك استئنافه، خلال سنة من تاريخ آخر إجراء تم في الدعوى، لما يرتّبه ذلك الحكم من آثار خطيرة بإزالة ما صدر من أحكام في مرحلتي الاستئناف والنقض وضياع ما بذل فيهما من جهد، وصيرورة الحكم الابتدائي انتهائياً مع أن الحكم الناقض لا يهدف الى مجرد إعادة الدعوى الى المحكمة الاستئنافية، بقدر ما يهدف الى إتباع المحكمة العليا في المسألة القانونية التي فصلت فيها، ونظراً لما يؤدى إليه سقوط الخصومة من نتائج على نحو ما ذُكِر، فإن مدة السنة المشار اليها تخضع لأحكام الوقف، كلما وجد مانع مادى أو قانوني لا يسمح بإجراءات التحريك، إذ أن إجراء بهذا الوصف ينبغي الا يُعمل به في ظروف غير طبيعية يكون من شأنها الحيلولة دون قيام الخصم بالإجراء المطلوب...).

1. تعجيل الدعوى، استثناء من الأصل:

بدأت المحكمة بتمهيد مؤدّاه أن الفقه والقضاء المقارن مجمع على (أن الحروب والثورات والاضطرابات الداخلية من شأنها وقف سريان مدة السقوط، لأن الحكم بسقوط الخصومة هو نقيض الاصل الذى هو موالاة السير فيها حتى استنفاد كافة درجات التقاضي، بما يتعين معه على المحكمة التحقق من أن عدم التعجيل كان راجعاً الى تقاعس الخصم وتلكؤه في اتخاذ الاجراء المطلوب، وهو ما قصده المشرع في المادة 255 من قانون المرافعات - ولما كانت احداث ثورة السابع عشر من فبراير سنة 2011، قد استمرت عدة أشهر، وتوقفت بسببها في معظم البلاد أعمال جل المحاكم، وأستحال على بعض القائمين بالإعلانات إيصالها الى المطلوب إعلانهم، لأسباب على رأسها الجانب الأمني، وقد استمر ذلك في بعض المناطق، وحتى في أجزاء المدينة الواحدة، إلى ما بعد إعلان التحرير في 23/10/2011 بما حال دون قيام بعض ذوى الشأن بإتمام الإجراءات والاعلان في المدة المحددة قانوناً، الأمر الذى يتعيّن معه على محكمة الموضوع متى دفع أمامها بسقوط الخصومة، وتبين لها أن مدة السقوط قد عاصرت تلك الأحداث، أن تتحقق من أن مدة السقوط قد عاصرت تلك الأحداث، وأن تتحقق من أن مدة السنة المقررة لذلك قد اكتملت بعد استنزال المدة التي تعذر خلالها على الخصم تحريك دعواه فيها، والتي يمكن إثباتها بمختلف وسائل الاثبات المقررة قانوناً، متى كان ظاهر الحال يوحي بذلك، تحقيقاً للعدالة وتفادياً للإضرار بأي خصم لسبب لا دخل لإرادته فيه، فإن هي قضت بسقوط الخصومة دون أن تتأكد من أن التأخير كان بسبب غير راجع إلى إهمال الخصم أو تأجيلات المحكمة أو إجراءاتها، كان حكمها مشوباً بالخطأ في تطبيق القانون والقصور في التسبيب، متعين النقض).

2. تعجيل الدعوى في واقعة الحال :

صدر حكم المحكمة العليا بنقض الحكم المطعون فيه بتاريخ 24/1/2011، وقام الطاعن بتحريك الاستئناف وحددت له جلسة في 21/7/2012 أعلن بها المطعون ضده وفق القانون بتاريخ 4/7/2012، ولم يبدأ نظره لأسباب تتعلق بالمحكمة إلا في جلسة 8/12/2013، وفى هذه الجلسة دفع المطعون ضده بسقوط الخصومة على اعتبار أن التحريك تم بعد أكثر من سنة من صدور حكم النقض. وقد استجابت محكمة الاستئناف للدفع وقضت بالسقوط تأسيساً على أن حكم المحكمة العليا كان قد صدر بتاريخ 24/1/2011، وأن الطاعن قام بتحريك دعواه بموجب صحيفة أُعلنت في 4/7/2012، وبعد تأجيل الجلسة إدارياً لم يقم بإعلان خصمه. وهكذا تسبيب لم يقنع الدائرة المدنية الثانية بالمحكمة العليا، (ذلك أن الحكم الناقض قد صدر عن المحكمة العليا في 24/1/2011، وبتاريخ 17/2/2011، اندلعت احداث ثورة السابع عشر من فبراير، وأنه من المعلوم للكافة ان مدينة مصراته كانت قد عاصرت أحداثها منذ البداية، وتوقفت فيها أعمال المحاكم، وأصبحت ساحة للعمليات الحربية، وحتى على فرض أن حالة القوة القاهرة قد رُفِعت بإعلان التحرير في 23/10/2011، فإنه باستنزال المدة التي تعذر فيها على الطاعن القيام بإجراءات تحريك الدعوى حتى 4/7/2012 2 لم تصل الى مدة السنة كاملة، وبإعلانه خصمه في التاريخ المذكور، تكون الخصومة قد حُركت في الميعاد وانقطعت المدة المقررة لسقوط الخصومة ...)، وأضافت (وأما ما تلا ذلك من تأجيلات بسبب عدم انعقاد الجلسة المحدد فيها نظر الدعوى وتأجيلها إدارياً وتوالي التأجيلات بعد ذلك لإعلان طرفي الخصومة، دون ان يقوم قلم الكتاب بذلك، فإنه لا يرجع الى إهمال الطاعن، حتى يتحمل تبعته، وإنما الى أسباب راجعة الى المحكمة ذاتها ... ). ولسد أي نافذة للنقد، أضافت المحكمة (وقد اعتبر قضاء النقض المقارن أنه إذا كان المكلف بالتعجيل هو قلم الكتاب فإن الخصومة لا تسقط ...) ورتّبت على ما سبق (ومن ثَم فإن نص المادة 255 من قانون المرافعات لا ينطبق في حالة التأجيلات الادارية من قبل المحكمة ... وإن سريان المدة في هذه الحالة يخضع للنص الخاص بانقضاء الخصومة- وليس بسقوطها-...). وختمت الدائرة المدنية الثانية حكمها بالتأكيد على أنه (إذ اعتبر الحكم المطعون فيه أن مدة سقوط الخصومة قد بدأت منذ صدور حكم النقض، وحتى حضور طرفي الخصومة للجلسة التالية لتأجيل الدعوى إدارياً، دون أن تأخذ المحكمة مُصدِرته بعين الاعتبار أحداث القوة القاهرة التي عاصرت بعض تلك المدة، ثم التأجيلات المتتالية لجلسات المحكمة المطعون في قضائها، بعد أن أجّلت الدعوى إدارياً، واعتبرت أن كل ذلك راجع الى إهمال الطاعن وتقصيره، فإن حكمها يكون مشوباً بالخطأ في تطبيق القانون والقصور في التسبيب، متعين النقض...).

ثانياً. نطاق المبدأ المقرر:

مدة السنة المقررة لتعجيل الدعوى بعد نقض الحكم الاستئنافي تخضع لأحكام الوقف، كلما وُجِد مانع مادي أو قانوني لا يسمح بإتمام إجراءات التحريك، ذلك لأن جزاءً بهذا الوصف ينبغي ألا يُعمل به في ظروف غير طبيعية يكون من شأنها الحيلولة دون قيام الخصم بالأجراء المطلوب. فالمحكمة الموقرة ربطت وقف مدة سقوط الخصومة في هذه الفرضية بوجود قوة قاهرة تجعل القيام بإجراء الإعلان المطلوب للتعجيل غير ممكن؛ وما من شك في أنه في حال وجود قوة قاهرة بأوصافها المعلومة- حدث عام غير متوقع يجعل القيام بالعمل مستحيلاً-، لا يعد الخصم المعنيّ بالتحريك مقصراً حتى نُحمّله نتيجة عدم التحريك في الميعاد حيث لا أحد يطالب بالمستحيل. غير أن السؤال يُطرح: هل يمكن مد نطاق المبدأ إلى فرضية لا ترقى الى مرتبة القوة القاهرة، لكون المانع المادي أو القانوني خاصاً بشخص المطالب بالتحريك: المستفيد من حكم النقض، كما لو أصيب هذا بجلطة دماغية أو حالة فقدان للوعي طويلة الأمد أو حُكِم عليه بعقوبة سالبة للحرية؟ يمكن لعبارة (مانع مادى أو قانوني لا يسمح بإتمام إجراءات التحريك) لو أُخذت خارج سياق الحكم أن تفتح الباب لبعض الاستثناءات الأخرى في إطار التفسير، وهو ما تقتضيه العدالة، كما في فرضية من تعرض لوعكة صحية افقدته القدرة على التمييز أو اتخاذ القرارات، غير أن المحكمة بررت ذلك بالاستناد الى ما اعتبرته محل إجماع في الفقه والقضاء المقارن أي (الحروب والثورات والاضطرابات الداخلية التي من شأنها وقف سريان مدة السقوط ) وطبّقتها على ما نتج عن (أحداث ثورة السابع عشر من فبراير) وما نتج عنها من استحالة إتمام الاعلانات في بعض المناطق أو في بعض أجزاء المدينة الواحدة، وبالتالي فإن المجال يبقى مفتوحاً للمجادلة بحسب مدرسة التفسير التي يتبناها الباحث! غير أنى أزعم أن عِلّة هذا الحكم تتجاوز فرضية القوة القاهرة التي كانت المناسبة التي صدر بشأنها الحكم محل التعليق؛ فوجود المانع المادي ذي الطبيعة الفردية - خطف الخصم ذي المصلحة من أجل الفدية أو دخوله في غيبوبة طويلة الأمد على سبيل المثال - يُجيز الاستثناء من شرط التعجيل خلال ميعاد السنة من تاريخ حكم النقض.

ونطاق المبدأ لا يقف عند نوع معين من الاستئناف (تحريري أو شفهي)، وإن كانت أهميته تبدو أكثر في فرضية الاستئناف التحريري، حيث لا علاقة للمحكمة بما يجرى قبل إعلانه إلى المستأنَف ضده، فالتعجيل مرهون بهذا الإعلان، أما في الاستئناف الشفهي- الذي يعد مرفوعا من لحظة تقديم التقرير لقلم كتاب المحكمة- فإن عملية الإعلان هي شأن قلم الكتاب، وبالتالي لا محل لتوقيع جزاء السقوط إذا أهمل القلم في ذلك، وانتهت مدة السنة، وذلك لأن الخصم هنا لم يهمل حتى نطبق علية حكم المادة 255 مرافعات.

وغني عن البيان أن المبدأ الذي قرره الحكم لا يقف عند الواقعة التي صدر بمناسبتها، بل يمتد الى كل واقعة مشابهة متى توافرت عِلّة الحكم (مانع مادي أو قانوني حال دون إتمام إجراءات التعجيل). غير أن السؤال يُطرح حول ما إذا كان يمكن على الصعيد التشريعي تحسين آلية التعجيل؟

ثالثاً. المبدأ من منظور استشرافي:

ما كانت المحكمة لتستطيع تقرير أكثر مما قررته لأن التعجيل مفروض بنص؛ فالمادة 357 مرافعات تنص على أنه إذا (كان الحكم قد نُقِض لغير ذلك من الاسباب- أي عدا مخالفة قواعد الاختصاص- تحيل [المحكمة العليا] القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لتحكم فيها من جديد بناء على طلب الخصوم ...)، فلا عودة للخصومة رغم الإحالة إلا بالتعجيل. ولم يحدد المشرع الليبي ميعاداً لذلك خلافاً لما نهجته قوانين فرنسا والجزائر على سبيل المثل، ولهذا طبقت المحكمة العليا احكام سقوط الخصومة (مواد 255 وما يليها مرافعات)، وهي ليست مناسبة بالضرورة؛ فمدة السقوط طويلة مقارنة بما انتهى اليه الحال في فرنسا والجزائر. ففي الجزائر، يجب ايداع عريضة التعجيل قبل انتهاء أجل شهرين من التبليغ الرسمي بقرار المحكمة العليا للخصم شخصياً وثلاثة أشهر إذا تم التبليغ في الموطن (ويترتب على عدم إعادة السير في الدعوى أمام جهة الإحالة في الآجال، أو عدم قابلية إعادة السير فيها، إضفاء قوة الشيء المقضي به للحكم الصادر في اول درجة، عندما يكون القرار المنقوض قد قضى بإلغاء الحكم المستأنف) (مادة 367 اجراءات مدنية وادارية). كما أنه من الممكن تبنى نظام للإحالة يُوجب على قلم كتاب محكمة الإحالة تبليغ الخصوم بالجلسة التي حددت لإعادة السير في الخصومة، بحسبان أن تلك المحكمة ملزمة بإعمال حكم النقض في المسألة القانونية التي حسمها (مادة 357 مرافعات، وهو ما أشار اليه الحكم محل التعليق). وبهذا نضمن تفادى بطء العدالة وتطبيق القانون. غير أن إشكالية أثر المانع المادي أو القانوني على ميعاد سقوط الحق في التعجيل ستبقى قائمة ما لم يحسمها المُشَرِّع صراحة، ويُحمَد للمبدأ الذي أرسته الدائرة المدنية الثانية أنه كرّس فكرة العدالة بالنسبة لمن حالت موانع دون التعجيل في الميعاد، وهو القدر الذي يملكه الاجتهاد القضائي في ظل جمود النصوص.