القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

الغيظ غدير: دور العُرف في المصالحة الوطنية

مع بداية الحراك الليبي الشعبي، يوم 22 فبراير 2011 م، أستخرجت صورة من النسخة الأصلية لميثاق الحرابي، وفي مكتب المرحوم إبراهيم بوحمرة الذي افتتحه ليكون غرفة عمليات الحراك منذ اليوم الأول للانتفاضة، طبعنا منها 2000 نسخة، وعن طريق شبيبة حركة الكشاف وجمعية الهلال الأحمر تم توزيعها في الطرقات وأمام مساجد مدينة درنة. كان الوقت مبكراً والانتفاضة في بدايتها، ولا أعرف ما إذا كان الحدس وحده ما أوحى بهذه الفكرة، أم الخوف الذي طالما لاحقنا من مرحلة ما بعد فاشية القذافي الثانية، ما كان وراء الإلحاح على تذكير الشباب خصوصاً بما فعل أجدادهم الأولون لإنقاذ الوطن من الفتنة والتشظي بعد انحسار فاشية موسيليني الأولى في ليبيا.

في شهر أبريل 2010 ، ضمن فعاليات مهرجان الأسطى للفكر والفنون الذي تقيمه جمعية بيت درنة الثقافي، أقمنا ندوة هامة تحت عنوان (نقد الكتابة التاريخية في ليبيا) بمحاور نظرية وتطبيقية، شارك فيها نخبة من المفكرين والمثقفين الليبيين، تناولت مسألة تشويه السياسي لكتابة التاريخ، وتعرضت لنقد كتب التاريخ المنهجية في المراحل المختلفة من التعليم الليبي ، وتشويه الرؤية السياسية والأيديولوجية لتاريخ ليبيا السياسي المعاصر في عقود ما قبل انقلاب 1969.

انطلقت هذه الندوة من خطورة الكتابة التاريخية حين تُجيّر لصالح مشروع سياسي أو أيديولوجي، وما يتمخض عنها من ردود أفعال راهنة أو مستقبلية مستجيبة للذاكرة المشوهة. لأن كتابة التاريخ بشكل مزيف من قبل السلطة الحاكمة ينتج ردود أفعال خاطئة تعمل بدورها على إنتاج راهن ملتبس. فتشويش الذاكرة يشوش الراهن الذي بدوره يعمي النظر إلى المستقبل.

الخيار السهل والخيار الصعب:

الخروج من الأزمات الصعبة يستلزم قراءة متأنية للتاريخ السياسي والاجتماعي، ويتطلب اتخاذ قرارات صعبة، وما حصل أن سلسلة من القرارات السهلة، تشبه حل المطبات التي ننشؤها على الطرق، اتخِذت بعد سقوط النظام ومباشرة المسار البديل، أوصلتنا إلى ما نحن فيه من أزمة شائكة خرجت فرص حلها عن تحكُمنا، وأصبحنا نستنجد بالمجتمع الدولي والقوى الإقليمية لإنقاذنا. والقرارات السهلة هي الإجراءات المنفعلة التي تدين باتخاذها للعواطف والغرائز، وللوعي الزائف بالتاريخ، وتشوه الذاكرة. فلا يمكن لمجتمع ان ينهض إذا ما اعتبر غريزة الانتقام ورغبة تصفية الحساب من أولوياته عندما يتخلص من حقبة تاريخية يصفها بالاستبداد والظلم ، لذلك كان من السهل إصدار قانون للعزل السياسي إشباعا لهذه الغرائز، وكان من السهل تأسيس هيأة لمعايير الوطنية والنزاهة مهمتها قراءة النوايا والإطلاع على ما في الأفئدة، وكان من السهل تحويل مؤتمر وطني ــ انتخبه الليبيون ــ ليجنبهم محاذير ما بعد سقوط النظام، فيتحول إلى عرض فلكلوري لثقافة ومزاج النظام المطاح به، وإلى ساحة لسن قوانين وقرارات هدفها الانتقام تصفية الحسابات، وتأسيس أو دعم ميليشيات ستكون الذراع المسلح لتنفيذ أحكام هذه المحكمة التي نصبت لحقبة كاملة ولشعب برمته. لكن الخيار الصعب الذي من المفترض أن يشكل أولوية، وكان المهمة الأساسية الأولى للمؤتمر المنتخب، هو المصالحة الوطنية، وهي أولوية تحتاج إلى قرارات صعبة، ودون تحقيقها فالبديل هو الحرب الأهلية، هذا ما يقوله صراحة تاريخ كل أمة ثارت على الطغيان، ووجدت أمامها تركة صعبة لا يمكن تفادي تداعياتها إلا باتخاذ مسار تصالحي يقفز فوق كل الاعتبارات والمصالح الشخصية أو الفئوية، ويسحب البساط من تحت أية أجندات خارجية أو داخلية تتربص بمستقبل هذا البلد، وتلعب في الشقوق المزمنة في نسيجه الاجتماعي والجغرافي.

هذا ما تحاشاه المؤسسون للدولة المستقلة في ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية وخروج الطليان، بعد أن تركوا خلفهم مجتمعا مفخخا بكل ما من شأنه أن يريق الدماء دون توقف، وكان من السهل أن يصدر قانون للانتقام يسمى تهذيبا بقانون العزل السياسي، وكان من السهل إطلاق الغرائز والعواطف المنفعلة لتثأر وتصفي حساباتها دون توقف، ولتضع ليبيا على شفير حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، غير أن للحكمة وقت إذا لم تحضر فيه اصبح للسفاهة أوقات طويلة.

حدَّق الليبيون في الماضي في ذلك الوقت وحدقوا في المستقبل، وكان لابد أن يختاروا أحد الزمنين، زمناً للتشفي أم زمناً للبناء، لنزف الدم أم لنضح العَرَق، زمناً للالتفات إلى الخلف أم زمناً للتطلع قدما.

لم يصل بعد في ذاك الوقت مبعوث أممي يركض بين الأطراف والقبائل، كان فقط ليبيون أميون وشبه أميين، لا يملكون الشهادات العليا، لكنهم يحوزون الحكمة والبصيرة والقدرة على تنكب الخيار الأصعب. وعبر منظمة وحيدة للمجتمع المدني، جمعية عمر المختار، وبرعاية الأمير، أُقر الميثاق الوطني الذي أبرمته الهيأة التأسيسة بمدينة بنغازي، ولينبثق عنه ميثاق الحرابي الذي وقعه أو بصم عليه عُمَد ومشايخ قبائل الحرابي وأعيان مدينة درنة بتاريخ 18 أبريل عام 1946 . وفي الحصيلة كان ميثاقا من صفحة واحدة كافٍ للجم غرائز التشفي وإحباط سعي السفهاء، وطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة للمستقبل، حتى وإن تضمن تأجيل المطالبة بالحقوق إلى ما بعد بناء مؤسسات الدولة، إلا أنه في الواقع أضمر ميثاقا للعفو والتناسي إذا لم يكن النسيان ممكناً، ومثله وُقعت مواثيق في الغرب والجنوب.

كان لابد من هذا الخيار الصعب في حينه لتجنب الأصعب، وكان لابد من لملمة الجراح لتندمل، بدل أن تظل نازفة، وبدل أن تُفتح جراحا جديدة أكثر ألما، هذا ما فعله الحكماء، لكن لسوء الحظ، هذه المرة، كانت الغرائز هي التي تقود المرحلة بعد عقود مازت بمديح السفاهة وهجاء الحكمة في حمى الحماس الثوري الأعمى وهستيريا الشرعية الثورية، ومثل هذه اللافتات المريضة تهيء بيئة خصبة لكل ما يمت للعنف والكراهية والإقصاء بصلة.

الإرث والمصالحة:

في حوارات عن العدالة الانتقالية، وحينما كان يتحدث البعض عن استلهام تجربة جنوب إفريقيا أو أيرلندا ، كنت أؤكد على استحضار تجاربنا الليبية في المصالحة الاجتماعية التي تتمتع بخبرة قرون كاملة ، فتلك التجارب التي تستظل بروح مسيحية تتمثل في الحقيقة والمصالحة انطلاقا من الاعتراف وصك الغفران، تقابلها في تجربتنا المصالحة المعتمدة على قيم اجتماعية راسخة تتمثل في العفو والمسامحة ، واحترام الكبار في السن، والخجل حين تقابل العينُ العينَ، وتقدير النخبة الاجتماعية، واحترام الضيف، وغيرها من القيم التي يؤطرها وجدان ديني ينتصر للصلح على حساب العقاب، ويعتبر العداوة التي تستمر لأكثر من ثلاثة أيام مكروهة، والذي حقق أحد النماذج الإنسانية الكبرى في التسامح في فتح مكة، مثلما أشار نيلسون مانديلا في رسالته للربيع العربي التي تحذر الإقصاء وتدعو للاحتواء والتسامح .

حين خرج مانديلا من السجن بعد 28 عاما كان يفكر، أثناء الخطوات التي تفصله عن عناق عائلته، كان يفكر في ما سيفعله مع الذين ظلموا، إنه التحدي الأكبر لجنوب أفريقيا بعد أن بدأ أفول الاستبداد، كان خيار عزلهم وإقصائهم سهلاً، لكن الخيار الصعب هو إدماجهم واحتوائهم في المجتمع حتى لا يصبحون قوى معرقلة لبناء الدولة الجديدة. وفي مذكرات يذكر مانديلا الذي كان والده شيخ قبيلة أنه استلهم هذه الروح التصالحية من اجتماعات أعيان القبائل في بيت والده.

ميثاق الحرابي:

غزا الطليان ليبيا، ثم ما فتئت أن قامت الفاشية لتُصدر عنفها إلى ما وراء البحر أو ما يسمونه الشاطئ الرابع، ليبيا، ولأكثر من ثلاثين عاماً حكمت الفاشية ليبيا ونكلت بمعارضيها وقتلت ونصبت المشانق وأقامت أعتى معتقلات جماعية في التاريخ، وعبر كل هذه الحقبة تعامل الكثير من الليبيين مع هذه القوة الوافدة؛ البعض مجبرا، والبعض بحماس كبير، فحارب بعض الليبيين بعضهم، وأعلنت أجزاء من قبائل أو قبائل بأكملها ولاءها للفاشية، وطاردت كتائب ليبية تابعة للطليان رجال المقاومة الليبيين، وعمل العديد من الليبيين وشاة لصالح الغزاة، والبعض نفذوا أحكام الإعدام بإخوانهم الليبيين، والبعض استولوا على أملاك آخرين.

انقضت هذه الحقبة بدخول جيوش الحلفاء لتترك إرثا قاسياً من الآلام والأحقاد والثارات، تكفي لفناء ما تبقى من هذا الشعب البسيط والقليل العدد، وعلى مشارف هكذا خطر يظهر الحكماء وأصحاب العقول وخبراء التجربة الاجتماعية الطويلة في رأب الصدوع وإصلاح ذات البين، فحُررت المواثيق وجابت وفود المصالحة أرجاء ليبيا لتطفئ نار الفتنة، ومن أهمها ميثاق الحرابي، وهذا نصه كاملا:

"بسم الله الرحمن الرحيم ... صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

أما بعد فإننا نحن عُمد ومشايخ قبائل الحرابي وأعيان مدينة درنة المجتمعين في المؤتمر الوطني المنعقد بمركز جمعية عمر بدرنة يوم الخميس 15 جماد الأولى 1365 هجري، الموافق 18 أبريل 1946 م لدرس الموقف الحاضر قد قررنا ما يأتي:ـ

أولاً ـ إقرار الميثاق الوطني الذي أبرمته الهيأة التأسيسية بمدينة بنغازي بموافقة الوفد الدرناوي بالنيابة عن منطقة ليبيا الشرقية.

ثانياً ـ عملاً بنداء سمو الأمير المعظم السيد محمد إدريس المهدي السنوسي نتعهد جميعنا بإيقاف كل خصومة وكل نزاع مهما كان نوعه فيما بيننا، فلا نسمح بإثارة فتنة قديمة أو جديدة، ولا نسمح بالمطالبة بحق قديم، سواء كان ثأراً أو دية قتل أو دية جرح أو حقاً عقارياً أو غير ذلك، رغبة منا في جمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد المجهودات وتوجيهها متظافرة متحدة إلى قضية البلاد السياسية وحدها حتى يتقرر مصير البلاد وتؤسس فيها حكومة وطنية وتنظم أمورها وتستقر أحوالها .

ثالثاً ـ عندئذٍ فقط يجوز لكل صاحب حق مشروع أن يطالب بحقه بالوسائل المشروعة وبواسطة حكومة البلاد الشرعية .

رابعاًـ ليس معنى هذا التعهد أننا ندعو أصحاب الحقوق إلى التنازل عن حقوقهم ولكننا نطالبهم بإيقاف المطالبة بها مؤقتاً ليتفرغوا للمطالبة بحق الأمة العام الذي له من الأهمية الكبرى ما يجعله أحق بالتقديم على حقوق الأفراد والعائلات والقبائل.

خامساًـ كل من يخالف هذا التعهد يعتبر معرقلاً لمساعي الأمة ومثبطاً لجهادها الذي نرجو أن يكلل بالنجاح التام في إحراز الحرية والاستقلال إن شاء الله .

ولما كانت هذه القرارات قد اتخذت بالاجماع فإننا نوقع على هذه الوثيقة بإمضاءاتنا الآتية :"

بعد هذا الميثاق لم تسجل حالة اعتداء أو اغتصاب للحق باليد، رغم أن الجراح كانت مازالت مفتوحة. احترم الجميع الميثاق على أن تؤجل المطالبة بالحقوق حتى يتقرر مصير البلاد وتستقر أحوالها، ولأن الصلح والمسامحة كان من ضمن كوامن الشخصية الليبية، لم تكتظ المحاكم بعد قيام الدولة ومؤسساتها، فكان النسيان وصفة التقدم، وكان المثل الشعبي "الغيظ غدير صيوره نزاح" ملهم المرحلة، وكان الشعار الذي اقترحه السيد السنوسي، ورفعه الميثاق (حتحات علي ما فات) هو حكمة الليبيين آنذاك ليمضوا قدماً.

وبتعاون وتعاضد بين المجتمع المدني المتمثل في جمعية عمر المختار والمجتمع الأهلي ممثلا بشيوخ القبائل وأعيان المدن، تحققت هذه المصالحة التاريخية التي من المفترض أن تدرس في مناهج التربية الوطنية والعلوم السياسية بعد أن كان التطرق إليها فترة النظام السابق ممنوعا ضمن سعيه لمحو هذا الميراث الأخلاقي وتلويثه، وربطه ببرامجه الأمنية والأيديولوجية، وعلى إلقاء بذور الفتنة في تربة نسيجه المتلاحم، والتلاعب بالتحالفات القبلية المشبوهة من أجل الحفاظ على سلطته وهيمنته المطلقة، ورغم الانتهازيين الذين تاجروا بالقبائل للتقرب من الطاغية أو الحصول على مناصب وغنائم ، ظل هذا الإرث الاجتماعي يقاوم طيلة هذه العقود كمظلة اجتماعية تعوض غياب دولة القانون وغياب أي تشكيلات مدنية واجتماعية أخرى، وظل يقاوم التجريف المتعمد للقيم والروابط الاجتماعية حتى غدا الملاذ الوحيد لفترة ما بعد فبراير من أجل رأب ما ظهر من صدوع ونزاعات في مناطق مختلفة من البلاد، فحافظ هذا الإرث قدر استطاعته على السلم الأهلي في مناطق مختلفة بعد غياب المؤسسات الأمنية والقانونية فيها، وتجاوزُ هذا الإرثِ والذهاب إلى محاكاة تجارب أخرى بعيدة عنا تاريخيا وثقافيا ووجدانيا للخروج من النفق، أفضى إلى هذا الارتباك، وجعل ليبيا حقل تجارب لمبادرات دولية نمطية لا تمت لثقافتها ولا لتراثها ووجدانها بصلة.

العزل السياسي ومحاكمة الشعب:

قانون العزل السياسي الذي يحاكي قوانين اجتثاث شامل لشرائح شعبية حصلت في بلدان أخرى، مهّد لعقلية الإقصاء والإقصاء المتبادل التي وسمت المناخ السياسي في السنوات اللاحقة، وأسس البنية التحتية لكل الصراعات والحروب اللاحقة، وعبر هذا القانون نُصِبتْ محكمة شاملة، متهموها شعب بأكمله. محكمة دون قاضٍ، ودون محامي دفاع، ودون شهود، ودون حاجب، ودون حتى مقر، تحكم غيابيا على عشرات الألوف دون أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم، بل وتحكم على أولادهم وأحفادهم الذين تضرس أسنانهم دون أي تأكيد على أن أباءهم أكلوا الحصرم.

في هذه الحالة ليس المقصود بالمحكمة مؤسسة قانونية عملها محاكمة الذين خرقوا القوانين، إنما هذه المحكمة تمثل فقط القوة التي من حقها أن تحاكم ، قوة السلاح الذي أصبح هوية الثوار الجدد، وهذه القوة هي فقط التي تعطي هذه المحكمة شرعيتها مثلما كانت تستقي محاكم القذافي قوتها من شرعية الاستيلاء على السلطة، ومن نفوذ اللجان الثورية المسلحة التي تحاكم وتنفذ الأحكام في الشوارع، وهنا التاريخ لا يعيد نفسه ولكنه يستنسخ نفسه، فحتى النظام السابق عمل على شطب المرحلة السابقة له برمتها، منذ الاستقلال إلى ما قبل الأول من سبتمبر بليلة، ومع الوقت أخذ مصطلح (الفرز الثوري) طريقه إلى المؤسسات جميعها وأصبح شعار"لاثوري خارج اللجان الثورية" قانوناً، ليستمر تجريف الأفراد والعقول، المؤسسات والكفاءات، حتى وصل الأمر إلى أن تاريخ ليبيا بدأ يوم 1/9/1969 ، في مظهر شامل من محو الزمان والمكان والذوات والمحتوى الاجتماعي، وماذا تبقى سوى مجموعة من المسلحين يجوبون الشوارع بملابس مدنية ويقتحمون المؤسسات وذريعتهم دائما أنهم حماة الثورة، وبالنهج نفسه سيعود الغالبية من الليبيين بعد فبراير إلى مرحلة الملكية بكل رموزها، ويُمسح التاريخ منذ 1969 إلى 2011، حتى وصل الأمر إلى أن تاريخ ليبيا بدأ يوم 17 فبراير 2011. وكل مجتمع يحذف حقبا من تاريخه، أو جزءا من ذاكرته، سيخلق مناطق معتمة تشكل عثرات في طريقه إلى المستقبل، وكل مرحلة محذوفة مثل هاوية على الجسر المفضي إلى الضفة الأخرى.

وفي النهاية إذا لم نستلهم كل ما هو مضيء في تاريخنا، ونحشد طاقات الذاكرة الإبداعية التي تؤكد جدارتنا بالحياة والتقدم، فإننا سنقضي كل الوقت؛ الذي من المفترض فيه أن نبني وطننا، على مقاعد هذه المحكمة الواسعة، نتهم ونقصي ونشتم ونعزل بعضنا البعض، لنكتشف أن هذه المحكمة المنصوبة بحجم الوطن ليس بها قاضٍ ولا شهود ولا ميزان، وهي مجرد اختراع نفسي لتطهير الذات، ولحرق قطعة من الزمن الملتبس كما تحرق الملابس من زمن الوباء، ومن يحرق الزمن في المكان لا مناص من أن يحرق المكان معه.