القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

العلاقة بين تطوير القدرات المؤسسية للدولة ومكافحة الفساد وبين التنمية والإصلاح

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، هيمن على المؤسسات المهتمة بالتنمية الاعتقاد بأن إطلاق الحريات الاقتصادية ونظام السوق هي السبيل لتحقيق التنمية الاقتصادية وانتشال البلدان المتخلفة من براثن التخلف، وهو ما يُعرف بتعبير "وفاق واشنطون" أو "الليبرالية المحدثة".

وهيمنت هذه النظرة على المؤسسات المالية الدولية والبلدان المانحة على حد سواء. وتركزت السياسات الاقتصادية في ذلك الوقت على الدعوة إلى تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي دون أن يصاحب ذلك الاهتمام بتعزيز القدرات المؤسسية للدولة (أي المأسسة) لتوجيه ذلك النشاط وتنظيمه على المستوى الكلي. وتعني المأسسة، في جوهرها، استقرار مؤسسات الدولة وتماسكها الداخلي بما يُمَكّنها من تطوير وظائفها وتعزيز قدراتها في مواجهة المتطلبات البيئية المتغيرة. كما أن غياب أو فقدان المأسسة يعني تدني القدرات المؤسسية للدولة، وعجزها عن أداء وظائفها المختلفة من استخراج وتنظيم وتوزيع.

غير أن الأزمات الاقتصادية في شرق آسيا والبرازيل والمكسيك وروسيا الاتحادية وبلدان أوروبا الأخرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة من القرن العشرين، أدت إلى تحول مهم في وجهات نظر الدوائر التنموية وسياساتها. ولقد كان للتطورات التي مر بها الاقتصاد الروسي، وما صاحبها من مشاكل مرتبطة بتدني القدرات المؤسسية للدولة الروسية خلال عملية تطبيق سياسات السوق والخصخصة، تأثير حاسم في تغيّر اتجاهات وسياسات وأنماط تفكير المؤسسات المهتمة بقضايا التنمية. وأدت هذه التطورات إلى تزايد القناعة بأن هناك ضرورة لتطوير القدرات المؤسسية للدولة، لأن للدولة دوراً مهماً وأساسياً في تحديد الأهداف الاجتماعية، وفي تنظيم القطاعات المختلفة للمجتمع، وفي ضمان حكم القانون، وحماية حقوق الملكية، وشفافية السياسات والإجراءات وعدالتها.

وعلى الرغم من عدم وجود مقياس متفق عليه لتحديد القدرات المؤسسية للدولة، فإنه نظراً لعودة الاهتمام بالأبعاد المؤسسية للدولة خلال تسعينيات القرن الماضي، قام المصرف الدولي بتطوير مؤشرات للحوكمة (Governance) تشمل أكثر من 200 بلد، وتتضمن ستة جوانب للحوكمة ولقدرات الدولة المؤسسية:

· مؤشر درجة المشاركة والمساءلة، ويقيس الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية.

· مؤشر عدم الاستقرار السياسي والعنف.

· مؤشر فعالية مؤسسات الدولة، ويقيس كفاءة الأجهزة الحكومية وجودة الخدمات العامة.

· مؤشر القيود التنظيمية المفروضة على قطاع الأعمال.

· مؤشر سيادة القانون، ويقيس القدرة على فرض العقود والالتزامات من خلال نظام قضائي مستقل ونزيه، يضمن حقوقاً واضحة ومستقرة للملكية.

· مؤشر السيطرة على الفساد، ويقيس الفساد بمختلف أشكاله، خاصة فيما يتعلق باستغلال المنصب العام لتحقيق منافع شخصية.

وتعني الحوكمة، في جوهرها، التقاليد والمؤسسات التي تُمارس عن طريقها السلطة من أجل تحقيق الصالح العام. وهي تشمل، بذلك، اختيار السلطات العامة ومساءلتها وتغييرها (البُعد السياسي)، وقدرة هذه السلطات على إدارة مواردها بكفاءة وتطبيق سياساتها بفعالية (البُعد الاقتصادي)، ومدى احترام المواطنين والسلطات العامة لمؤسسات الدولة (البُعد المؤسسي). وأصبحت هذه الأبعاد الثلاثة للحوكمة أساساً لتقويم القدرات المؤسسية للدولة والمقارنة بين مختلف البلدان في مدى سيطرتها على الفساد وإنجاز مستهدفات التنمية.

أما الفساد فيعني، وفقاً لتعريف المصرف الدولي، إساءة استعمال المنصب العام من أجل تحقيق منافع شخصية وخاصة. وفق هذا التعريف، لا يقتصر الفساد على الجوانب المالية مثل الرشوة واختلاس المال العام، بل يشمل أيضاً أشكالاً أخرى مثل المحاباة والمحسوبية والقبلية والجهوية والتسيب وغيرها.

ويمثل الفساد مشكلة نظامية تستلزم معالجة على مستوى النظام ككل للقضاء على جاذبية العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشجعة للفساد والمعززة لنموّه. ويمكن تصنيف عوامل الفساد إلى عوامل ثقافية وعوامل تنظيمية. وتشمل العوامل الثقافية المفهوم الاجتماعي للفساد في المجتمع ودرجة التسامح مع الفساد وتشجيعه. أما العوامل التنظيمية فتتمثل في القواعد القانونية وفعالية فرضها، كما تشمل الدور الاقتصادي للدولة وبنية الحكم، وتنظيم عمليات جباية الموارد العامة، وتوزيع المنافع العامة، ومعايير تعيين المسؤولين العامّين وتحفيزهم، وحرية التصرف المتاحة لهم، ودرجة مساءلتهم ورقابتهم مؤسسياً وشعبيا.

لكن، هل الحكم الصالح (Good Governance) والسيطرة على الفساد أساسيان حقاً للتنمية والإصلاح الاقتصادي؟ لقد أدى تنامي الأبحاث الإمبيريقية خلال العقد الماضي، إلى جانب الدروس المستفادة من تجارب بلدان مختلفة، إلى توفير أساس قوى لتقويم أثر طبيعة الحكم والقدرات المؤسسية للدولة على السيطرة على الفساد وإنجاز مستهدفات التنمية، ولمعرفة مدى فعالية استراتيجيات الإصلاح في هذا الإطار:

§ تبين الدراسات الإمبيريقية حول تأثير الحكم الصالح على التنمية في السنوات الأخيرة، أن نوعية الحكم وطبيعة القدرات المؤسسية للدولة تؤثر على مستويات التنمية وعلى التنافسية الاقتصادية من خلال السيطرة على الفساد، حيث تشير هذه الدراسات إلى أن انتشار الفساد يوازي فرض ضريبة كبيرة على المستثمرين في البلدان المتخلفة، كما أنه يمثل ضريبة تنازلية تؤثر سلباً على المستويات المعيشية لذوي الدخول الأدنى في هذه البلدان. صحيح أن نوعية الحكم ليست هي الأمر المهم الوحيد للتنمية الاقتصادية والسيطرة على الفساد، فالسياسات الاقتصادية والتجارية والقطاعية مهمة أيضأ، إلا أنه عندما يكون الحكم سيئاً والقدرات المؤسسية للدولة متدنية، فإن ذلك سوف يؤثر سلباً على كفاءة صنع تلك السياسات وفعالية تنفيذها.

§ أنه من غير الممكن نجاح الخطط والمشروعات التنموية في بيئة تتسم بدرجة عالية من الفساد، حيث تشير الأدلة الإمبيريقية إلى أن احتمالات نجاح المشروعات التنموية تتضاءل بدرجة كبيرة في ظل غياب مقاربة نظامية للحكم تتضمن كفالة الحريات المدنية والسياسية وسيادة القانون والسيطرة على الفساد.

§ أنه لا يمكن محاربة الفساد بمجرد تشكيل لجان والقيام بحملات موسمية ضده. فمثل هذه المبادرات عادة ما يكون تأثيرها محدوداً، لأنها، في الغالب، نتاج ردود أفعال سياسية وقتية للضغوطات المطالِبة بمواجهة الفساد، تحل محل إصلاحات جوهرية ونظامية في الحكم ومؤسساته.