القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

الدولة وتعويض أضرار الحرب، بمناسبة حكم الدوائر المجتمعة للمحكمة العليا برفع تعارض بين حكمين

اختلفت بعض دوائر المحكمة العليا في شأن مدى مسؤولية الدولة عن تعويض الاضرار الناتجة عن العمليات العسكرية -بمختلف تسمياتها- وتجلى ذلك في حكمين قرر أولهما لا تعويض إلا بعد صدور قانون خاص من السلطة التشريعية (طعن مدني رقم 254-64ق جلسة 15-2- 2020)، في حين ذهب الثاني أن في أحكام القانون المدني المنظمة للمسؤولية ما يكفي (طعن مدني رقم725- 65، جلسة 17-11-2020). وهو ما خلق بيئة قانونية تصدم أدنى مبادئ العدالة لما ينجم عنه من عدم مساواة بين المتقاضين رغم تماثل مراكزهم القانونية. لهذا وجدت الدائرة المدنية الثانية - بمناسبة نظرها للطعن المدني رقم 688-65ق. - سانحة لدعوة الدوائر المجتمعة للمحكمة لرفع التعارض بين المبدأين: الذي يعلق مسؤولية الدولة على سن تشريع خاص والثاني الذي يجيزها في إطار القانون المدني النافذ. وبعد إن استعرضت المحكمة بدوائرها المجتمعة موقف الدائرتين انتهت الى (الأخذ بالمبدأ الذي يقرر أن مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة يكون وفقا لمصادر الالتزام في القانون المدني) (حكم الدوائر المجتمعة بتاريخ 2-1- 2023). هذا الحكم وإن حسم الخلاف بما يحقق العدالة، إلا إن تأسيسه لرفع التعارض يدفع للتأمل.

مباركة المبدأ بتحفظ

ما من شك في أن نهج الدوائر المجتمعة فيما يتعلق بالاستجابة لطلب رفع التعارض بين فقه الدائرتين كان صائبا لأن استلزام صدور خاص قانون يلزم الدولة بالتعويض لا يمكن قصر نطاقه على موضوع الطعن المعروض، (بل يتعد صراحة مدلوله الى جميع المطالبات المتعلقة بالتعويص عن تلك الاعمال ...)؛ ولكن هل كانت الدوائر المجتمعة في حاجة الى الاسباب التي جاءت بعد ذلك وبالصنعة التي صيغت بها؟ فالمحكمة الموقرة بدأت بتأكيد وحيث يبين جليا من خلال استظهار الواقعة التي كانت محل لتصدى كل طعن ببحثها على حدة أن الحصول على تعويض عن أضرار ناشئة عن الأعمال -سالفة الذكر - كانت غاية سعى لتحقيقها المدعى في كل من الدعويين وبتأسيس منه ينسبه للدولة ممثلة في الجهات الادارية المدعى عليها بما يجعل للمعيار الذى ينبغي أن يهتدى به لتحديد الخطأ المترتب على تلك الاعمال (...) كان يشكل في كلتا الواقعتين موضوع الطعنين محل الطلب الماثل مقطعا للنزاع يجمع بينهما باعتباره ركنا من أركان مسؤولية تقصيرية أقيمت على أساسها كلتا الدعويين). لتذكر بعد ذلك بقضائها السابق: (ولما كان قضاء هذه المحكمة جرى على أن الدعوى إذا كانت مقامة على أساس المسؤولية التقصيرية على اعتبار توافر أركانها فإنه ليس بلازم أن يكون الفعل الذي نجم عنه الضرر عملا غير مشروع أو معاقبا عليه قانونا..) ومقتضى ذلك أضافت المحكمة (أنه يكفي لتوافر الخطأ في المسؤولية التقصيرية في هذا المجال أن يقع الفعل الذي أدى الى الضرر دون تحسب لنتائجه فيكون ما يقدم عليه خطأ مدنيا يرتب في ذمته التزاما بتعويض المضرور عما ألحق به من ضرر فعلى طبقا لنص المادة 166من القانون المدني..) (ولا يمكن التخلص من هذه المسؤولية والإعفاء منها- تواصل المحكمة- إلا في الحالات التي نصت عليها المادة 168 من القانون المدني من حادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ المضرور أو الغير). ثم كانت النتيجة المنطقية: (لما كان ذلك، وكان ما ذهب اليه الطعن المدني رقم 254 لسنة 64ق.، باشتراطه صدور قانون خاص يلزم الدولة بالتعويض (...) مستبعدا الركون في ذلك الى الاحكام العامة في المسؤولية التقصيرية بالخصوص والتي أسس عليها الطعن المدني رقم 726لسنة65ق.، قضاءه بما يتماشى مع ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة بما يتعين معه إعمال مصادر الالتزام المنصوص عليها في القانون المدني في هذ الشأن لأنه أقرب لمراد المشرع والمتفق مع قواعد العدالة). وإذا تركنا جانبا ما يتعلق بمقتضيات الصنعة في مجال الاحكام التي يمكن لأهل العلم استظهارها ، فإن رجل القانون لابد أن يلاحظ أن المحكمة الموقرة في اعتمادها مصادر الالتزام- لتأسيس دعوى التعويض عن أضرار العمليات العسكرية بمختلف مسمياتها - لم تكن موفقة ربما ؛ فمن غير المتصور أولا الركون الى الأثراء بلا سبب أو الارادة المنفردة ، بل والعقد ، وبالتالي كان من الضروري تحديد المصدر المناسب في هذا المجال أي الفعل الضار أو المسؤولية التقصيرية هنا دون تقييد بالمسؤولية عن الفعل الشخصي الذى يفهم من الإشارة الى المادة 166 مدنى ، خاصة وأن المحكمة ربطت البناء بقواعد العدالة التي تتحقق ربما أكثر طبقا لقواعد المسؤولية المبنية على علاقة التابع بالمتبوع ! ويثير الحكم أيضا تساؤلا آخر يتعلق بمدى الحاجة الى الاحتكام الى قواعد المسؤولية التقصيرية في ظل المرحلة الانتقالية التي تعيشها ليبيا؟

حكم الدوائر المجتمعة وقانون العدالة الانتقالية

لم يتطرق الحكم الحالي ولا الحكم الذي استلزم سن تشريع خاص لقانون العدالة الانتقالية وهو الأولى بالتطبيق لأن دعاوى التعويض الناتجة عن الأعمال الحربية أثناء أو بعد أحداث 17 فبراير هي من تطبيقات العدالة الانتقالية. فقانون العدالة الانتقالية النافذ -على غرار سابقه - عالج مسألة التعويض أو جبر الضرر (القانون رقم 29 لسنة 2013). وهكذا كان يمكن البناء على هذا القانون لأنه في هكذا مسائل وفى ظروف الانتقال جبر الأضرار له أحكامه الخاصة ومنها مراعاة مصلحة المضرور ومصلحة الخزانة العامة أيضا كما يستفاد من التجربة الانسانية! المهم ألا يبقى المتضررون من تلك الأعمال - الحربية- للقضاء والقدر.

(سبق لي التعليق على الحكمين مصدر التعارض:

بتاريخ 8/12/2020 (تعويض أضرار الحرب ..بداية أمل)

وبتاريخ 15/02/2020 (اللى تجى فيه الله يصبره( أو القضاء والقدر القضائى!!))

سبق للكاتب نشر المقال على صفحته الشخصية على الفيسبوك، ونعيد نشره تعظيماً للفائدة.