القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

اختلاف فقه قضاء دوائر المحكمة العليا وتعسر العدالة

لا شك أن وظيفة المحكمة العليا هي السهر على حسن تطبيق القانون من قبل المحاكم وتوحيد الاجتهاد القضائي، ولعل حكم المادة 31 من قانون المحكمة العليا التي تضفي قوة إلزام على المبادئ التي تضعها هذه المحكمة لخير شاهد على ذلك. غير أن هذه المهمة أصبحت عسيرة بعد تقسيم المحكمة الى دوائر متعددة؛ فعلى الرغم من التطور التقني الهائل في مجال المعلوماتية لازال التضارب بين اجتهادات الدوائر قائما ولم تحقق آلية الدوائر المجتمعة الغاية منها! وللتدليل على صحة هذا الزعم نقدم مثالا حيا يتعلق بالموقف من اللجان الادارية ذات الاختصاص القضائي بعد نفاذ القانون رقم 6 لسنة 2006 بشأن نظام القضاء.

1) فالدائرة المدنية الثانية بالمحكمة العليا قضت في الطعن المدني رقم 1133-58 جلسة 10-9-2015 بصحة نعي الطاعنين على الحكم المطعون فيه لمخالفته المادة 19 من قانون التطوير العمراني رقم 116-1972 الذى ناط تقدير التعويض المستحق لملاك الأراضي التي يتقرر لزومها للمنفعة العامة للجان تشكل لهذا الغرض؛ وعليه نقضت الحكم الذى خالف القانون وقدر التعويض مباشرة دون أن يتم عرض الأمر أولا على اللجان المنصوص عليها قانونا. فالحكم كما هو واضح صدر بعد نفاذ قانون نظام القضاء الحالي ويقر بشرعية اللجان الادارية ذات الاختصاص القضائي؛ وهو يلتزم بحكم الدوائر المجتمعة للمحكمة الذى صدر بمناسبة الطعن المدني رقم 1221-56ق بتاريخ 24-03-2014 والذى -وإن عدل عن المبادئ السابقة التي تشترط لقبول دعوى التعويض عن الأراضي المنزوعة ملكيتها لتنفيذ مشروع السكة الحديدية اللجوء الى اللجنة الادارية المشكلة بقرار من الجهة التنفيذية دون تفويض وإرساء مبدأ يعطى الحق لأصحاب الشأن في اللجوء مباشرة الى القضاء - إلا أنه أكد بعد إيراد نص المادة 20 من قانون نظام القضاء الذى لم يستثن من ولاية المحاكم سوى أعمال السيادة: (ولئن كان من الجائز بنص خاص وضع قيود على اختصاص المحاكم بالفصل في بعض المنازعات والجرائم لعلة يراها المشرع، إلا أن هذا التقييد يجب أن يكون بأداة موازية، وهي القانون، احتراما لمبدأ تدرج التشريعات). وما قررته الدوائر المجتمعة يعكس التفسير السليم للقانون، لأن ولاية المحاكم محددة بقانون، وبالتالي لا تملك السلطة التنفيذية تقييدها.

2) غير أن الدائرة المدنية السابعة لم تراع النهج السابق في قضية الطعن المدني رقم 754-63ق - جلسة 10-3-2020, حيث أيدت ما نعى به الطاعن من مخالفة الحكم المطعون فيه للقانون لما قضى به من عدم قبول دعوى التعويض عن نزع ملكية لأن المادة 19 من قانون التطوير العمراني رسمت لذلك طريقا خاصا متجاهلا المادة 20 من قانون نظام القضاء التي جعلت الولاية العامة للقضاء بنظر المنازعات كافة. وأسست الدائرة المذكورة اجتهادها على دعامتين: الأولى أن المرجع في تحديد ولاية القضاء هو قانون نظام القضاء والذي في مادته العشرين جاء صريحا (تختص المحاكم بنظر كافة المنازعات والجرائم وليس للمحاكم أن تنظر في أعمال السيادة). أما الدعامة الثانية فهي المادة 118 من نفس القانون التي ألغت قانون نظام القانون السابق رقم 51-1976. والحجتان قوامهما أن صياغة المادة 20 صريحة في شأن ولاية القضاء وانه من تاريخ نفاذها ألغيت كافة الاستثناءات السابقة على هذه الولاية لما ورد في عجز المادة 118 من النص على إلغاء كل حكم يخالف أحكام القانون الجديد- رقم 6- المنظم للقضاء. وبناء على ذلك نقضت الحكم المطعون فيه وأحالت القضية للمحكمة مصدرته للفصل فيها مجددا من هيئة أخرى!

هذا التباين في الفهم ومن ثم في القضاء لابد أن يكون مصدر ضرر للمتقاضين وينعكس سلبا على العدالة. فلو اقتصرنا على هذه القضية الأخيرة سنلاحظ أن الدعوى رفعت عام 2013 وسجلت تحت رقم719 وحكمت المحكمة للمدعى بالتعويض وألغت محكمة الاستئناف الحكم في 9-12-2015 ونقض الحكم بتاريخ 10-3-2020 أي بعد ما يقارب سبع سنوات، مضافا اليها المدة التي ستستغرقها القضية مجددا أمام محكمة الاستئناف واحتمال الطعن في الحكم بالنقص مجددا وعقبات التنفيذ، فإن النتيجة هي، فضلا عن ضياع الوقت والجهد والنفقات بالنسبة للمتقاضين والمحاكم وأعوان القضاء، غياب الأمن القانوني وتعسر الحماية القضائية -وبالتالي القانونية-، الأمر الذى قد يعيد للعدالة الخاصة المحظورة بريقها !

وفى الموضوع مجال هذا التعليق يلاحظ على نهج الدائرة المدنية السابعة القائل بأن ولاية القضاء صارت مطلقة اعتبارا من نفاذ القانون رقم 6 انه، من جهة، تجاهل المبدأ الذي وضعته الدوائر المجتمعة وبالتالي خالف المادة 31 من قانون المحكمة العليا التي تعطى للمبادئ إلزامية بالنسبة لكافة المحاكم والجهات، وأن ذات القانون حدد آلية واحدة للعدول وهي الدوائر المجتمعة. ومن جهة ثانية، أن الحجة الثانية المتعلقة بنص القانون رقم 6 على إلغاء سابقه وإلغاء كل حكم مخالف فهذه العبارة الأخيرة لا يمكن فهمها على النحو الذى فهمته بها ا لدائرة المذكورة : فالمسلم به في فقه القانون أن النصوص الخاصة لا تلغى إلغاء ضمنيا إلا بنصوص خاصة مماثلة لها، ومن المعلوم أن قانون نظام القضاء وهو من القوانين المكملة لقانون المرافعات هو من النصوص ذات الطبيعة العامة وبالتالي فإن النص الخاص الذى رسم طريقا خاصا للحصول على تعويض في حال نزع الملكية للمنفعة العامة- وأي نص على شاكلته - يبقى نافذا ولو تعلق الأمر بولاية القضاء . كما أن من المسلم به فقها وقضاء أن الأصل في القوانين أنها تسري بأثر فورى.

وهكذا فإن قبول تفسير الدائرة السابعة سيقود الى نتائج عملية خطيرة وهي اعتبار أن ما قامت به اللجان الادارية ذات الاختصاص القضائي- وفق المبادئ المجيزة لذلك- غير مشروع دون نظر لأي انعكاسات أخرى على ما قد يكون بني عليه، وهو أمر لم يدر بخلد المشرع أصلا عندما عدل صياغة المادة المتعلقة بولاية القضاء بحذف عبارة (الا إذا نص القانون على خلاف ذلك). فبقاء هذه العبارة أو حذفها - كما يقتضيه المنطق- لا يغير من حقيقة الأمر وهي أن ولاية القضاء هنا محددة بنص تشريعي عادى وبالتالي يمكن للمشرع تعديلها إذا رأى ذلك وهو ما فهمته الدوائر المجتمعة عام 2014 في حكمها المشار اليه. ولهذا كان الأولى الالتزام بقضاء المحكمة العليا السابق في الخصوص أو عرض الأمر على الدوائر المجتمعة كما يقضى به قانون المحكمة لتفادى الآثار السلبية لاختلاف الدوائر في تفسير وتطبيق القانون وتيسير سبل العدالة لطالبيها. ولهذا يتوجب على السيد رئيس المحكمة العليا وجمعيتها العمومية اتخاذ الاجراءات اللازمة- في إطار قانون المحكمة وبما يراعى استقلال القضاة - لضمان مبدأ المساواة بين المتقاضين أمام القضاء وتوحيد تفسير وتطبيق القانون الذي هو مهمة محكمة النقض.

نُشر هذا المقال على صفحة الكاتب على الفيسبوك، ونعيد نشره تعظيماً للفائدة.