القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

تيسّر العدالة في ليبيا من منظور السعاة إليها: تيسّر العدالة لملاك أراضٍ أُخضعت للقانون 123/1970، المرج

شهد تاريخ ليبيا الحديث تشريعات وتدابير استهدفت تحقيق إصلاحات جذرية لملكية الأراضي، ولكنها خلقت حالة من عدم التيقن القانوني وكانت مصدراً لنزاعات بين من انتفعوا منها ومن خسروا. وتركز هذه الدراسة على ثلاثة نزاعات على الأراضي ناتجة عن تطبيق القانون 123 (1970) بشأن الأراضي الزراعية المستصلحة والمملوكة للدولة. وتدور هذه النزاعات في مدينة المرج وضواحيها، وتتعلق تحديداً بأراضٍ كانت مملوكة لعائلات الجوهري وبوحمير وبوقرين، وهي تنتمي إلى قبيلتي العرفة والعبيد التي توزع الكثير من أفرادها ما بين منتفع بالقانون 123 ومتضرر منه. وقد اُختيرت هذه النزاعات لأنها تكشف عن المراحل المتعددة التي يمر بها طالبو العدالة، وتنوع الوسائل التي يستخدمونها. وهذا الملخص يقتصر على واحدة من النزاعات، وهو المتعلق بأرض عائلة الجوهري.

ورث مفتاح الجوهري النزاع على الأرض من أبيه، وبدأت قصته بتمسك أبيه بأرضه حين أخضعت للقانون رقم 123. كان عمره حينها تسعة عشر عاماً، وهو يذكر كيف اعترض والده على إخضاع الأرض للقانون، ومحاولته منع آلات تسوية الأرض وتمهيدها، ما انتهى به موقوفاً في مركز شرطة المرج، ولم يفرج عنه إلا بعد أن وقّع على تعهد بعدم اعتراض الآلات ثانية.

لم يكن أمام والد مفتاح عندها إلا أن يتقدم بطلب انتفاع بالمزرعة التي أقيمت على أرضه، ولكن قوبل طلبه بالرفض بحجة عدم تحقق شروط الانتفاع فيها. ولم يجد نفعاً طعنه في قرار الرفض أمام لجنة الطعون الزراعية، إذ رفضته هذه. وانتهى الأمر بهدم الكوخ الذي كان يقيم فيه، وإجباره على إخلاء الأرض، وتحوله للإقامة في كوخ من الصفيح أقامه في وادٍ مجاور.

وبعد وفاة والده، استأنف مفتاح مساعي استعادة الأرض، فقدّم طلبات للعديد من مؤسسات الدولة ذات العلاقة، واستعان بأخرى عرفية. وبعد لأي، توجت مساعيه بصدور قرار عام 1998 عن مدير مشروع الأوسط الزراعي باستحداث 731 مزرعة، كان نصيبه منها المزرعة 79 ب. ولكن هذا القرار لم يجد طريقه للتنفيذ، في حالة الجوهري على الأقل. لقد كانت الأرض المخصصة له حبيسة عن الطريق العام، ويلزم للوصول إليها إذن المنتفعين بالمزارع المحيطة بها، وهذا ما رفضه هؤلاء. ثم إن القرار برمته ألغته لاحقاً لجنة الطعون الزراعية، وأيدتها في ذلك محكمة استئناف الجبل الأخضر ومن بعدها المحكمة العليا. كانت الحجة هي أن قرار استحداث المزارع صدر عن غير ذي صفة.

وحين وقعت ثورة فبراير 2011، أحيت مطالب الملاّك السابقين. أعاد هؤلاء المطالبة باسترداد أراضيهم، ودفعوا وزارة الزراعة إلى تخويل مجالس الحكماء معالجة الأمر. وبدورها شكلت هذه المجالس لجاناً عرفية رعت اتفاقات مصالحة بين الملاك السابقين والمنتفعين، مؤداها استرداد الأولين لكل أو بعض أراضيهم. ووفقاً لرئيس مجلس إدارة منظمة "أرضنا لنا" التي أنشأها الملاك السابقون لتعزيز مطالبهم، فإن هذه الاتفاقات غطت حوالي 80٪ من إجمالي المزارع الواقعة في منطقة الدراسة. وبالنسبة لمفتاح الجوهري، فإن الاتفاق الذي أبرم في النصف الثاني من عام 2013 قد قرر أن ترد إليه أرضه كاملة.

ولكن، في تجلٍ آخر لتأثير التغيرات السياسية على مساعي العدالة، طُعن في اتفاقات المصالحة وما نتج عنها. ففي النصف الثاني من عام 2014، شهدت البلاد انقساماً سياسياً صحبه نزاع عسكري، وجرت مراجعات للإجراءات التي أتخذت إبان ثورة فبراير وبعيدها، ومنها اتفاقات المصالحة.حينها، ذكّر بعض المنتفعين بأن القانون رقم 123 لم يزل نافذاً قانوناً، وأدعوا أنهم أُجبروا على توقيع اتفاقات المصالحة، وطعنوا فيها أمام القضاء، وطلبوا الحكم إخلاء الأرض وطرد الملاك السابقين منها. وهذا ما حدث لمفتاح الجوهري، إذ حصل خصمه على حكم من محكمة المرج الابتدائية بالإخلاء والطرد. لم يقف مفتاح مكتوف الأيدي، فطعن في الحكم أمام محكمة استئناف الجبل الأخضر التي استجابات لطلبه بوقف تنفيذ الحكم المستأنف وإلغائه. ولكن مفتاح فوجئ بأن خصمه، المنتفع بالأرض، يمنعه من دخولها بحجة أن حكم محكمة المرج قد نفذ فعلاً، وأبرز محضراً صادراً عن محكمة المرج يثبت إخلاء الأرض من الشواغل والأشخاص.

وما لبثت الأمور أن أخذت بعدها مساراً دامياً. فقد تهجم المنتفع على الجوهري وأسرته بالرصاص، ما أدى إلى مقتل ابن أخ الجوهري وإصابة آخر بعاهة مستدامة، وحين حاول ابن أخيه الثاني حرق مسكن الجناة، طاله الحريق وأدى إلى وفاته.

أثمرت مساعي المصالحة الاجتماعية لمعالجة المشكلة عن اتفاق عادت الأرض بموجبه إلى مفتاح الجوهري. قضى الاتفاق بمغادة الجاني وعائلته مدينة المرج للأبد، وبتأدية دية القتلى، نصف مليون دينار ليبي، وباسترداد مفتاح أرضه على أن يبقي جزءاً منها للمنتفع السابق لمدة عشرة سنوات يؤجرها ويستخدم أجرتها في سداد الدية.

وهكذا يتبين أن نزاعات منشأها تطبيق قانون يعود إلى أكثر من خمسين سنة ما زالت قائمة، وتتمظهر أحياناً في أشكال عنف، يهدد السلم المجتمعي.

صدر هذا الملخص في التقرير النهائي للمرحلة البحثية الأولى لمشروع تيسر العدالة في ليبيا.