تيسّر العدالة في ليبيا من منظور السعاة إليها: تيسّر العدالة للزوجات المعنفات، بنغازي
تناولت هذه الدراسة خمس حالات لزوجات معنفات في مدينة بنغازي. وقد تنوعت الحالات من حيث سبب العنف؛ ففي حالة عزة كان الغش الزوجي سببا للعنف، وفي حالة خديجة كان الزواج التقليدي ضد رغبة الزوج، أما خولة فقد كانت الغيرة الشديدة هي السبب، وفي حالة ريما وفاطمة شكلت الحرب علامة فارقة، فقد كانت سبباً في نزوح أسرة فاطمة وبطالة أسرة ريما وفقرها. كما تنوعت أشكال ودرجات العنف بين الحالات الخمس؛ فعزة تعرضت للتهديد بالخطف والمواقعة، بينما أهينت وسُبَّت خديجة، وضُربت فاطمة فحق بها إيذاء بسيطا، بينما كان الإيذاء الجسيم والخطير من نصيب ريما وخولة.
كانت رحلة هؤلاء النسوة في طريق الوصول للعدالة ثرية بالمحطات. ولكن يمكننا إجمال الحديث عن أهم محطات تلك الرحلة لهن جميعاً. فبعد وقوع التجربة الضارة، تتفق الحالات في إدراكهن لضررها وشجبهن لها، ولكنهن اختلفن في إسناد اللوم، فهناك من تسنده إلى الزوج وحده، وهناك من تسنده إلى الزوج والأب أو الأم، وهناك من تسنده إلى الحرب والظروف الاقتصادية المصاحبة لها.
وتختلف الحالات من حيث المطالبة. فريما لا تريد الطلاق، وقد أجبرها أخوتها على المطالبة بالجزاء الجنائي، بينما لم ترد عزة وخديجة شيئا غير الطلاق، وأرادت فاطمة وخولة الجزاء الجنائي والطلاق معاً.
وفي تحقيق مطالبهن، اختلفت السبل التي اتبعنها. بعضهن اخترن مسارا غير رسمي، إذ فضلن التفاعل مع الآلية الاجتماعية المتمثلة في الأسرة أو القبيلة؛ وبعضهن الآخر فضلن وسيلة رسمية من خلال مؤسسات عدلية سواء منها المحكمة طلبا للطلاق أم مركز الشرطة طلبا للجزاء الجنائي.
وإزاء هذه المطالب، عادة ما ينازع الزوج في طلب الطلاق ولا يستجيب له إلا بعد التيقن من أنه سوف يكون بأقل الخسائر، كما في حالة عزة؛ وقد يعمل على إعاقة طلب الجزاء الجنائي، إما من خلال تبرير العنف بأنه دفاع عن العرض وممارسة لحق التأديب كما في حالة خولة، أو بالعمل على تحويل النزاع بتقديم شكوى مقابلة كما في حالة ريما.
ويقوم الأطفال بدور مفصلي في هذه الرحلة العدلية سواء باعتبارهم ضحايا غير مباشرين أم محل نزاع زوجي. كما أنهم يوظَّفون في إثبات الواقعة العنفية بوصفهم شهود عيان على الواقعة المحاطة بأسوار بيت الزوجية، وبسببهم قد تتنازل الزوجة عن مطالبها، وتتخلى عن طلب الطلاق، وترفض سجن والدهم مهما عنّفها، كما في حالة ريما.
وقد تشابهت أغلب الحالات في تأثير المجتمع الذكوري والثقافة الذكورية على الأسرة، بل وعلى مقدمي العدالة. فخديجة لم تستطع المجاهرة بخطأ زوجها، ورفع الأمر إلى القضاء مخافة وصم والد ابنتها بأنه "مثلي"؛ ووالد فاطمة رفض الطلاق، وأجبر ابنته على تحمل العنف الزوجي بأنواعه؛ وأهل عزة لم يستطيعوا مواجهة الزوج بخصائله الشائنة خوفا من السمعة السيئة التي قد تطالهم. والأخوة يتحكمون في مسار المظلمة، تيسيراً أو تعسيراً. والقبيلة تجنح لتسوية الموضوع بين الزوج وأولياء الزوجة من الذكور، ومقدمو العدالة الرسميون يتعاملون مع البلاغات والشكاوى العائلية بحساسية مفرطة في الحرص على الروابط الأسرية وفقاً لمنظومة قيم شرقية، عربية، وإسلامية. والغرباء عادة ما يحجمون عن التدخل بين الأزواج حتى وإن شهدوا على العنف، إلا إذا كان العنف جسيماً، أو وقع خارج بيت الزوجية.
وكان للقبيلة دور مميز في كثير من الأحايين، بوصفها أداة ضبط اجتماعي تصلح بين الأزواج، وتقضي بالنصفة (تعويض عيني للزوجة)، وقد تلزم الزوج بالتطليق، وقد تلزم أهل الزوجة بالتنازل عن حقوقهم المادية سعيا منها لتسوية المنازعات بين أسر الزوجين.
وأما مراكز الشرطة، فهي من أولى المؤسسات العدلية التي لجأت إليها كل من خولة وفاطمة وريما، وفي الحالات كلها كان ضابط التحقيق يفتح محضراً، ويسمع الشكوى، ويتأكد من رغبة المعنية في مقاضاة زوجها جنائيا ويحيلها للنيابة، التي تحيل بدورها الزوجات الشاكيات إلى الطبيب الشرعي وتأمر بضبط وإحضار الزوج تمهيدا لحبسه احتياطيا بتهمة إساءة معاملة أحد أفراد الأسرة. ويحدث أحياناً أن تتنازل الزوجة عن شكواها بضغط من أسرتها، ما يغل يد النيابة عن متابعة إجراءات الملاحقة القضائية كما في حالة فاطمة، وحينها يعود النزاع للمسار غير الرسمي "الاجتماعي".
ولعل من العقبات التي واجهت ضحايا العنف الزوجي محدودية وعيهن القانوني. ففي غالب الحالات، تتخير المرأة أول محام في طريقها سواء كان صديقاً للعائلة كما في حالة خديجة، أو محامياً من المحاماة العامة كما في حالة فاطمة، وأحيانا يتحول النزاع من نزاع أسري إلى مهني، حيث يتبارى بعض المحامين الخواص في إثبات المهارة بما يصل إلى اختلاق وقائع لإثبات كيدية الشكاوى، كما في حالة خولة. وفي المجمل، أظهرت الدراسة أن الزوجات المعنفات ينظرن إلى المحاماة العامة (الشعبية) على أنها غير فاعلة، خلافاً للمحاماة الخاصة، وإن كن يحملن على الأخيرة ارتفاع تكلفتها.
ويشكل الإثبات عقبة أخرى. فبالرغم من أن الضرر الزوجي قد يثبت بالشهادة، فإن الدراسة قد كشفت عن الأهمية الكبرى المعطاة عمليا لتقرير الطبيب الشرعي، فهو من يحدد الإصابة المادية وعلى أثرها نوع الجريمة ومقدار العقوبة. كما أن النيابة العامة لا تعتد بتقرير المستشفى الذي لجأت إليه الزوجة، بل تشترط عرض الزوجة على الطبيب الشرعي، وهو إجراء قد يتراخى مسببا أضرار بمركز الزوجة القانوني.
وهذه الحالات عبارة عن عينة محدودة عشوائية، ولكنها تعد مؤشرا على وجود عدد أكثر من الحالات، بعضها أوصل صوته لمقدمي العدالة الرسميين، وبعضها اكتفى بمقدمي العدالة غير الرسميين، والأغلب الأعم حالات لم تقرر كسر جدار الصمت بعد.
صدر هذا الملخص في التقرير النهائي للمرحلة البحثية الأولى لمشروع تيسر العدالة في ليبيا.