القانون والمجتمع في ليبيا

القانون والمجتمع في ليبيا

تيسّر العدالة في ليبيا من منظور السعاة إليها: تيسّر العدالة لأسر ضحايا مجزرة بو سليم

تمثل قضية أبوسليم علامة فارقة في تاريخ القضاء الليبي بل وفي التاريخ السياسي لليبيا، فعلى الرغم من أن أحداثها وقعا عام 1996، فإن صفحاتها لم تطو بعد على الرغم من مرور ما يزيد على ربع قرن على حصولها، مما يعكس عجز المنظومة القانونية والمؤسسية عن توفير الحد الأدنى من الضمانات المرتبطة بفكرة العدالة.

وفي سبيل الإجابة على سؤال البحث الرئيس"لماذا لم تتيسر العدالة لضحايا أبوسليم؟" استمع الباحث إلى وجهات نظر ثلاث من ذوي الضحايا ، نعرض فيما يلي لواحدة منها"مقابلة السيدة"وداد"، لإلقاء مزيد من الضوء على مسار العدالة المتعثرة في هذه القضية.

وقد وقع الاختيار على هذه الحالة لاعتبارات عدة، أولها جسامة الآثار الناجمة عن اعتقال زوجها وقتله، ، و كانت حين اعتقال زوجها حاملاً بطفله الوحيد، وقد توقف مصدر دخلها الوحيد"مرتب زوجها"فهي تمثل الحلقة الأضعف لطالبي العدالة في هذه القضية، وثانيها أن آثار الواقعة واكبت مسار حياتها ومازالت قائمة تتجدد كل يوم، فالسلطات لم تصدر بعد شهادة وفاة زوجها، والتحقيقات التي أجريت في القضية لم تفصل في أمره، وبالتالي هي ما زالت على ذمة زوجها مادامت وفاته لم تعلن رسميا، فهي إذن زوجة من الناحية القانونية وأرملة في الواقع، ولهذا لا يمكنها المطالبة لا بالقصاص ولا بالدية ولا بالحقوق المقررة لذوي الضحايا، وثالثها أن هذه الحالة توضح بجلاء قصور الآليات والتدابير التي اتخذتها الدولة الليبية في شأن العدالة الانتقالية عموما وواقعة أبوسليم على وجه الخصوص؛ فهي على تعددها لم تنه مأساة صاحبة الحالة ولم تفلح في تحديد مركزها القانوني ولم تيسر لها الوصول إلى العدالة في قضية زوجها.

كانت السيدة "وداد" تقيم في طرابلس حين اعتقلت السلطات زوجها"أحمد" في أبريل 1986، وقد كانت حينها حاملا في الشهر الثالث بابنها عبدالقادر، ولم تعرف سبب اعتقاله ولا الجهة التي اعتقلته، وفي سنة 1988 علمت من بعض السجناء السياسيين المفرج عنهم أن زوجها في سجن الجديدة، فزارته للمرة الأولى في أبريل سنة 1988، وظلت تزوره كل شهر، وإن كانت تمنع في بعض الأحيان، وكانت الزيارة الأخيرة له قبل الواقعة بشهرين، "أبريل1996"، وقد علمت بالواقعة في حينها، لكنها لم تعرف مصير زوجها، وظلت تذهب لزيارته كل شهر، محملة بالمؤن والملابس دون أن تمكّن من مقابلته وكانت تسلم المؤن والملابس لحراس السجن، الذين تعهدوا بتسليمها لزوجها، وكان ذلك يشكل بارقة أمل لديها في كونه حيا، لا سيما وأنه لا ينتمي للتيار الإسلامي المستهدف في الواقعة، وتعزز ذلك بالمناداة على زوجها في إحدى جلسات محكمة الشعب والحكم عليه بمعاقبته بالسجن المؤبد، ورسخ مسلك السلطة مع أسرتها هذا الاعتقاد، إذ تواصل معها مجهول وسلمها رسالة من زوجها، وأخذ منها حاجيات تعهد بنقلها له، كما اتصل ضابط استخبارات بشقيق زوجها 2009، طالبا تجهيز كتيب العائلة تمهيدا للإفراج عنه، وتكرر هذا سنة 2011، وحين طلب مندوب منظمة العفو الدولية زيارته، أبلغ أنه مسجون في بنغازي، بما أوهمها هي وأسرتها بأن زوجها قد نجا من المذبحة، لكن هذه الآمال تبخرت بعد نجاح ثورة فبراير، حيث أخبرها سجين رافق زوجها في سجنه أنه يوم وقوع الحادثة " أبوسليم"نودي على زوجها صباحا، فذهب مع الحراس إلى فناء السجن وبعد خروجه مباشرة سمع وابلا من الرصاص، حيث تمت تصفيته، وهي حتى هذه الساعة لم تبلغ رسميا بوفاته.

وبعد اعتقال زوجها وتوقف مرتبه حاولت الحصول على وظيفة لتأمين دخل لها ولطفلها فقوبل مسعاها بالرفض، لأن زوجها معتقل سياسي، والجهة الوحيدة التي قبلت توظيفها هي"مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية"، حيث وظفت بعقد مكافأة مقطوعة، ما حال دون ترقيتها، وظل مرتبها ثابتا لم يزد طيلة حياتها الوظيفية، وقد تواصلت مع مندوب منظمة العفو الدولية لمساعدتها في معرفة مصير زوجها، فلم تظفر بطائل، كما قدم ابنها مذكرة لسيف الإسلام القذافي طلبت فيها الإفراج عنه، ولم تُجد نفعاً، كما طالبت مصلحة الأحوال المدنية بتغيير كتيب العائلة وتنصيبها ربة للأسرة، فرُفضت بحجة أن رب الأسرة "زوجها"لا يزال حيا من الناحية الرسمية، ما حال دون حصولها هي وابنها على رقم وطني، لأن ذلك لا يكون إلا لمن صرفت لهم كتيبات عائلة جديدة، وعندما تزوج ابنها لم تصرف له المصلحة كتيب عائلة لأنه بدون رقم وطني، ولم تصرف لها وزارة الشهداء المنحة المقررة لأسر الشهداء إلا بعد تدخل أصحاب الخير بحجة عدم ارفاق شهادة الوفاة. ويضاف إلى ذلك، أن الدعوى التي رفعتها لإثبات وفاة زوجها أمام محكمة جنوب طرابلس الابتدائية انتهت بحكم بعدم الاختصاص.

وأما عن تأثيرات الواقعة عليها، فإن مأساتها لا حدود لها، فعلاوة على حرمانها من زوجها، فإنها ظلت منذ اعتقاله في 1986 معلقة، ومازالت على هذا الحال على الرغم من علمها بقتله، لأن السلطات المختصة لم تصدر شهادة بوفاته، ما حال دون تحديد وضعها الاجتماعي قانونيا، وحال دون صرف رقم وطني لها ولابنها، ما جعل مواطنتها منقوصة، كما حال دون مطالبتها بالقصاص ولا بالدية ولا بالتعويض عن مقتل زوجها، وحرمها من الحقوق المقررة لذوي الضحايا، فضلا عن حرمانها من حقوقها الوظيفية، وحرمان ابنها من ميراث أبيه في أسرته لعدم تحديد تاريخ الوفاة. وكل هذه آثار متواصلة متجددة لاحقتها في ظل النظام السابق وظلت تلاحقها حتى بعد سقوطه.

ويمكن القول إن أبرز العقبات التي واجهتها هي صعوبة إثبات الجرائم التي قارفها النظام السابق، فهو لحرصه على طمس آثار جريمته أخفى الجثت وأحرقها، كما أن أرشيف السجن اختفى، ما أسهم في عدم تمكينها من إثبات وفاة زوجها، وكان لغياب الرؤية لدى المشرع أثره في الحيلولة دون معاقبة الجناة، وأسهم انعدام المهنية في تعثر مسارها، فدعواها لإثبات وفاة زوجها، قضى فيها بعدم الاختصاص على الرغم من أنها رفعتها عن طريق محام، وانعكس تسييس القضية سلبا على مسارها، فالمعالجات التي اتخذتها السلطة التشريعية كانت في إطار ردود الأفعال، ما جعلها جزئية وقاصرة.

باختصار تتلخص مأساتها في أن خصمها هو القاضي الذي تطلب منه الإنصاف، فالدولة التي توجه إليها طلباتها هي من اعتقلت زوجها وقتلته، وهي من حرمتها من حقوقها الوظيفية، وهي الآن تضن عليها بشهادة وفاة لزوجها تحسم مركزها القانوني.

صدر هذا الملخص في التقرير النهائي للمرحلة البحثية الأولى لمشروع تيسر العدالة في ليبيا.