تيسّر العدالة في ليبيا من منظور السعاة إليها: تيسّر العدالة للنساء المحرومات من الإرث. ضواحي بنغازي
حق المرأة الليبية في الإرث مكرّس شرعاً وقانوناً، بل حرمانها منه فعل يجرمه القانون ويعاقب عليه. ولكن عملياً تحرم الكثير من النساء من إرث الأرض. وهذه الدراسة تعرض إطاراً عاماً -قانونياً وتاريخياً وثقافياً- لحق المرأة في الإرث عموماً وفي إرث الأرض على سبيل الخصوص، قبل أن تقدم تحليلاً مفصلاً لحالة سيدة حرمت من الميراث وسعت للحصول عليه. وترصد الورقة عدداً من التطورات المهمة في هذا السياق: صوت المرأة المتزايد، والتسويات البراغماتية، ونقاط الضعف في القضاء الليبي فيما يتعلق بقضايا الحرمان من الميراث.
ولدت أم العز، الشخص الرئيس في الدراسة، في خمسينيات القرن العشرين في منطقة ريفية ليست بعيدة عن بنغازي. كان زمناً مختلفا. كانت الأرض حينها وفيرة، وتربتها الحمراء وأمطارها المحدودة جعلت زراعة الشعير ممكنة. وعندما ولدت كانت عائلتها تقوم بكل شيء في تلك الأرض؛ وكانت الأرض مدار حياتهم.
ولكن ما لبثت ليبيا أن تغيرت بسرعة، خاصة بعد اكتشاف النفط عام 1959. أصبحت الوظائف في مكان آخر، فالتحق أحد أخويها بالجيش، وحصل الآخر على وظيفة في قطاع النقل. ولكن لم تهجر الأسرة الأرض كلية، فقد دأبت على زراعتها دورياً بالشعير، وتولى أحد الأخوة بيع حقوق الرعي وبعض مياه البئر لمربي الماشية. وبخلاف ذلك، ظلت الأرض غير مأهولة لسنوات، ولم تكن قابلة للتسويق أو ذات قيمة خاصة.
كانت الأرض ملكاً قبلياً، وآلت بالميراث إلى عائلة أم العز، ولأن والديها انحدرا من هذه العائلة، فقد كان لأم العز الحق في أن ترث أجزاء من الأرض عن طريقهما.
ولكن، لعقود، لم تحاول أم العز المطالبة بحقها هذا. أحد الأسباب متجذر في العرف المحلي الذي كان والدها يذكّرها به مرارا: "المرأة المتزوجة من أجنبي (براني) لا ترث". ولفظ "البراني" هنا ينصرف إلى كل غريب عن العائلة، وعلة استبعاده، ضمان بقاء ملكية الأرض ضمن العائلة. ولهذا، عندما تزوجت أم العز من "براني"، فقدت حقها في وراثة الأرض. امتناعها عن المطالبة راجع أيضاً إلى حيائها من مطالبة أخوتها؛ فقد شعرت بأن هذا فعل لا يليق.
ومع ذلك، يبدو أن مطالبة المرأة الليبية بحقها في الميراث أصبحت أكثر شيوعاً. قد يجد هذا تفسيراً له في ارتفاع أسعار الأراضي. كان التحضر سريعا في جميع أنحاء ليبيا، وبالنسبة لبنغازي، تضاعف حجمها تقريبا بين عامي 2009 و2019. كما ارتفعت أسعار الأراضي في المناطق المحيطة بالمدينة. وقد يكمن التفسير أيضاً في أن الأجيال الجديدة من النساء أكثر جرأة في المطالبة بحقوقهن.
وفيما يتعلق بأم العز على وجه الخصوص، فإن بدئها المطالبة بحقوقها يعود إلى ثلاثة أسباب أخرى. لقد كبر أولادها، ما يعني أن لديها من يعولها، من غير أخوتها، في حال حاجتها. كذلك، فإن بنات خالتها، اللائي يشتركن معها في الإرث عن طريق الأم، جاهرن بالمطالبة بحقوقهن، وشجعن أم العز على اقتفاء أثرهن. ويضاف إلى هذا، أنها وقعت ضحية مرض خطير، عجزت عن القيام بتكاليف علاجه، ما أثار موضوع بيع حصتها من الأرض.
وللمطالبة بميراثهم، لجأ أبناء وبنات خالة أم العز في البداية إلى أقاربهم الحائزين للأرض. ولكن هؤلاء رفضوا مطالبهم بحجة أن جزءاً من الأرض لم يعد ملكاً للعائلة، فقد أعادت الدولة توزيعه على هؤلاء الأقارب تطبيقاً للقانون 123/1970 (انظر 3-3). أما الجزء الآخر، فقد ادعى هؤلاء بأن مورّث أم العز وأقاربها -من جهة الأم - قد باع حصته منذ زمن، ولم يعد هناك ما يورث عنه.
وإزاء هذا الرفض، لجأ أبناء وبنات خالة أم العز إلى قريب مشترك يتمتع -بسبب خلفيته الدينية- باحترام الجميع، للتوسط في حل النزاع، ولكن هذا لم يُجد نفعاً. عندها، قاموا بتوكيل محام خاص لرفع دعوى للمطالبة بحقوقهم.
وفي حين ما تزال القضية قيد التداول، فإن مشاعر متناقضة تنتاب أم العز وابنها. فهم من ناحية يعتقدون أن هذا التحول إلى المحكمة كان حتميا نظرا لتعنت أقاربهم حائزي الأرض. ولكنهم، من ناحية أخرى، يشعرون بعدم الارتياح لمقاضاة أقاربهم. وقد أثر النزاع بالفعل على علاقتهم بهم، فأم العز تذكر مقاطعة أقاربهم هؤلاء لحفل زواج ابنتها.
وتنبهنا قضية أم العز إلى التفاوت بين القانون والتطبيق. ففي حين يحظر الأول، بل يجرّم، حرمان أم العز ومثيلاتها من الميراث، فإن الثانية تكشف عن شيوع هذه الممارسة. وهذا يدل على أن الإصلاح القانوني، بسن تشريعات مثلاً، لا يكفي، ولكن الدراسة تكشف أيضاً عن تزايد مطالبة النساء بحقوقهن، وترصد ممارسات تهدف إلى ايفائهن بعض حقهن بدفع بديل الأرض نقداً مثلاً، وهي ممارسات وإن كانت لا تفيهن حقهن تماماً، فتقويم الأرض عادة ما يشوبه بخس، فإنها تؤشر إلى تنامي فعالية المطالبات. ولا شك في أن النجاح، وإن جزئياً، من شأنه تشجيع عدد أكبر من النساء على المطالبة بحقوقهن، وبالتالي تقليص الفجوة بين القانون والتطبيق.
صدر هذا الملخص في التقرير النهائي للمرحلة البحثية الأولى لمشروع تيسر العدالة في ليبيا.