تيسّر العدالة في ليبيا من منظور السعاة إليها: تيسّر العدالة للمهاجرات غير النظاميات، بنغازي
تستكشف الدراسة تفاصيل تجارب ثلاث مهاجرات غير نظاميات، بلقيس وسارة وليزا، ضاق بهن وطنهن فغادرنه بعد أن أجهض حقوقهن؛ وعشن فيه في فقر وتهميش، وجازفن بحياتهن في سبيل الوصول إلى حياة أفضل، لكنهن في رحلتهن وقعن ضحية لخداع المهربين واستغلال تجار البشر، واخترن العيش في مدينة بنغازي، لأن ظروف العمل والمعيشة والأمان فيها أفضل حسب وجهة نظرهن من مدن أخرى في ليبيا، لكنهن تعرضن لسلسلة طويلة ومركبة من الانتهاكات ممن يستغل وضعهن غير القانوني لترهيبهن والسيطرة عليهن.
عاشت المهاجرات الثلاث تناقض أدوار المجرم والضحية، فقد كنّ يخترقن الحدود والقانون وتلاحقهن السـلطات لانتهاكهن للقانون المنظم للهجرة، وفي الوقت نفسه يناضلن من أجل الحياة والحقوق. تعرضت بلقيس لانتهاكات متعددة ولم تتجه أبدا للمطالبة بالعدالة؛ أما سارة فكانت ضحية لمهربي وتجار البشر ولم تختر السعي إلى العدالة، ووجدت نفسها أمام محطة القضاء متهمة؛ وأخيرا ليزا التي اتهمت بممارسة أعمال السحر بعد سنوات قضتها في عبودية دين رحلة الهجرة، لم تتوجه هي أيضا بالشكوى أو المطالبة لدى أي جهة رسمية.
واللافت أن بعض المهاجرات ضحايا الاتّجار بالبشر في هذه الدراسة، لم يكن على وعي بأنهن أمام مظلمة حقيقية ولم يقمن حتى بتسميتها، ولم تتخذ العدالة مجراها في حالات أخرى لأسباب لا تتعلق بوعيهن، بل بعدم وعي مقدم العدالة بقضايا الاتّجار وحساستها. ومن سمّت منهن مظلمتها ألقت اللوم على نفسها، وحتى في الحالات التي ألقت باللوم على منتهكي حقها لم تذهب إلى حد المطالبة بحقها أو بجبر للضرر أمام الجهات الرسمية لأسباب متنوعة على رأسها الخوف من الاحتجاز والترحيل.
لم تطلب المهاجرات المساعدة من منظمات حقوقية وطنية أو إقليمية أو دولية. ولم تلجأ أي منهن إلى سفارات أو قنصليات بلادهن، وتصرح المبحوثات جميعهن بأنهن لا يثقن في قدرة بعثات بلادهن على تقديم الحماية الدبلوماسية والمساعدة القانونية. وكان لهن طرق مختلفة للحصول على المعلومة والمشورة، من جهات غير رسمية، ومن أشخاص تعرفهم كالزوج أو الأصدقاء أو قادة مجتمع الجالية أو صاحب العمل.
لم تعٍ بلقيس أنها وقعت ضحية تجار البشر، فلم تتمكن من تسمية مظلمتها، ولم تعتبر التهريب فعلا ضاراً يقتضي اعتباره مظلمة، فالهجرة كانت بإرادتها، ولا تتوقع من المهرّب تحقيق الغرض منها، ولكنه يؤمّن لها الفرار من الحرب والفقر إذا وصلت وجهتها بنجاح، ولهذا ألقت اللوم على سوء حظها وفي أحيان أخرى لامت نفسها. وبررت العمل القسري، باضطرارها لسداد ديون من أسمته الميسر الذي تخضع لسيطرته، ولم تع أن حقوقها في الحياة وسلامة بدنها وكرامتها قد انتهكت. بينما تمكنت من تسمية مظلمتها، وتوجهت باللوم للمسؤول عنها عندما اقتحمت الشرطة منزلها وجردتها من ممتلكاتها البسيطة، وكذلك عندما وقعت ضحية أرباب العمل ولم تُدفع أجرتها لأشهر، لكن هُددت بتسليمها لمراكز الاحتجاز إذا اعترضت، فلم تتجه إلى أي جهة رسمية أو غير رسمية للمطالبة، لخوفها من الاتهامات المضادة التي قد تؤدي إلى الاحتجاز والترحيل.
أما سارة فكانت قادرة على وصف مظلمتها وتسميتها بعدما وقعت ضحية للمهربين وتجار البشر من اليوم الأول لرحلتها، احتجزت قسرا في مراكز احتجاز غير رسمية لفترات طويلة، تعرضت فيها للابتزاز والتعذيب، ولم تلم تاجر البشر بل لامت أهلها الذين دفعوها للهجرة، ولم تستثمر فرصة مثولها أمام القضاء بوصفها متهمة بصناعة الخمور، ومجبرة على التعاطي مع مؤسسة القضاء وأدواته، في الادعاء على المهربين والتجار. وارتبطت حالة تعسر العدالة في رحلة سارة بنقص المعلومات بشأن حقوقها، ومعرفتها المحدودة بل المعدومة بالقواعد الموضوعية والإجرائية وخيارات الانتصاف، بالإضافة لحواجز اللغة، ولم تكن لديها قناعة كافية بأن مطالبتها ستلقى اهتمام القاضي. لم تعلم سارة كيف تم تعيين محام، ومن دفع أتعابه التي لا تستطيع توفيرها، ولم تتمكن من التواصل مع محام وهو حلقة من أهم حلقات العدالة. تجربتها مع الأجهزة الأمنية والقضائية كانت متناقضة، ففي الوقت الذي لم ترض فيه بحكم القاضي واعتبرت حكمه بترحيلها كحكم إعدام لمستقبلها وأمانيها، كان لفوضى المؤسسات الأمنية وسوء الوضع الأمني الكلمة الفصل التي حالت دون تنفيذ الحكم، ووجدت نفسها بعد اعتداء مجموعة مسلحة على مركز مكافحة الهجرة غير الشرعية حرة طليقة.
سلسلة من التجارب الضارة واجهتها ليزا في رحلتها. كانت تعي أنها ضحية اتّجار بالبشر لكنها لم تتوجه لأي جهة عدلية رسمية أو غير رسمية بالشكوى، فوصفت علاقتها بالمهرب بالرضائية، كما لم تصف تجربتها مع الاتّجار بالضارة، ولم توجه اللوم لأحد بل صرحت أنها تتوقع تكرار التجربة ذاتها في رحلتها القادمة نحو أوروبا. وعندما مثلت أمام القضاء متهمة بممارسة أعمال السحر والشعوذة بعد أن استحوذت الشرطة على مدخراتها، وابتزها موظف عمومي داخل أروقة المحكمة، لم تبلغ القاضي لخوفها من الشرطة. قام محاميها بفضل علاقاته الشخصية، باستصدار بطاقة حصر لها في فترة قياسية، قبل أن تمثل أمام القاضي، فلم توجه لها تهمة دخول البلاد بطريقة غير مشروعة، واستطاع أيضا أن يبرئها من تهمة ممارسة أعمال السحر التي لا يجرمها القانون إلا بوصفها جريمة النصب التي لا تتوافر أركانها في حالتها، فحُكم ببراءتها وتحقق لها الرضا في منظومة أمنية وأخرى قضائية غير منضبطة.
تشكل القيود التشريعية، وانعدام القدرة والخبرة في التعامل مع مؤسسات العدالة الرسمية، وصعوبة الإجراءات، ومحدودية الوعي والمعرفة بالقانون والحقوق، والتصورات السلبية عن المؤسسات الأمنية والعدلية، والتمييز ضد المهاجرين والعوائق الإجرائية أمام القضاء، وعدم الثقة في المؤسسات، والخوف على الأسرة في بلد المصدر من انتقام تجّار البشر، عقبات أمام المطالبة وتعسر العدالة للمهاجرين عموما.
وتتعلق بعض العوائق بالنوع الاجتماعي الذي يجعل المهاجرة أكثر ضعفا، ويُعسّر بل ويجهض رحلتها نحو العدالة، كالافتقار إلى إجراءات التحقق من أنها ضحية للمهربين وتجار البشر المراعية للنوع الاجتماعي، قبل تطبيق الإجراءات المتعلقة بوضعهن القانوني فيما يتعلق بالهجرة؛ وتعرضها للتنمر والتحرش والعنف الجنسي؛ فضلا عن الوصم المجتمعي الناتج عن اللجوء إلى مؤسسات العدالة، ومعتقدات وتصنيفات المجتمع السلبية التي قد تلصق بهن، وتؤدي إلى التمييز والعزل عن مشاركة الآخرين في مجتمع الجالية أو الأهل في بلد المصدر، وتدفعهن للإمساك عن الإبلاغ عن العنف الأسري والانتهاكات الجسدية التي يقعن ضحيتها للجهات الرسمية وغير الرسمية.
لا توجد أي سياسات أو تدابير لحماية المهاجرات من العنف الاسري وجرائم الاتّجار بالبشر، تشجع النساء على الإبلاغ الآمن، وتمنع الانتقام ممن التمسن اللجوء للعدالة، كبرامج حماية الشهود، وسياسات جدران الحماية التي تمنع مشاركة أو إعطاء أي بيانات شخصية أو معلومات عن المهاجرات غير النظاميات، للأجهزة الأمنية وأجهزة مراقبة الهجرة، ومقدمي الرعاية الصحية حتى تيسر لهن الوصول للعدالة.
قد تكون الدولة هي الخاسر الأكبر بفشلها في تكريس الحقوق وحمايتها، وفي غرس ثقة المهاجرين في مؤسساتها ومجتمعها، فعندما لا تكون مسارات العدالة ميسرة، تتأثر علاقة المهاجرة بمجتمعها وبالآخر الليبي بزيادة عالية في مستوى النزاعات، بينما قد يخلق تيسر العدالة لفئة مهمشة كالمهاجرات غير النظاميات مجتمعا أكثر عدلا، ويؤسس لعدم الإفلات من العقاب ويدعم بناء المؤسسات.
صدر هذا الملخص في التقرير النهائي للمرحلة البحثية الأولى لمشروع تيسر العدالة في ليبيا.